لمى العثمان: مفتاح العقل

حينما يوضع رافعو شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والديمقراطية أمام المحك وتحين لحظة الاختبار الحقيقي فإنهم يسقطون سقوطاً مدوياً بمطالباتهم بحبس أو إعدام المغردين والكتّاب، كما حصل مؤخراً مع مصعب شمساه، بينما يطالبون بالحرية لأنفسهم فقط، عندها نتيقن أننا أمام أزمة ثقافية مستفحلة.
فالممارسة الفعلية لشعارات الحرية، لا التنظير المفلس، بعيدة المنال مادامت كوابح وموانع ومعوقات النهضة الفكرية تكبل العقول بسلاسلها وتسجنها في قوالب مغلقة. وهي كما يصفها د. إبراهيم البليهي “الطبيعة الصماء للثقافات التقليدية التي تجعلها رافضة تلقائياً لأي مؤثر جديد، ونابذة لأي فكر طارئ ونافرة من أي نقد أو تحليل كاشف”.
لقد توهمت المجتمعات المتخلفة، كما يقول البليهي، أن سر التقدم يكمن في استيراد المعلومات والنظم والتقنيات، إلا أن التعليم فيها لم يزدد إلا تخلفاً، لأنه لم يسبق بثورة ونهضة فكرية، إذ لا فائدة من تعليم يشبه “إضافة كأس من الماء الصافي العذب إلى بركة مليئة بالماء المالح العكر”، وكذلك هو العقل الذي “يحتله الأسبق إليه”، وهي حصون الثقافة التلقائية المغلقة، التي شخصها د.البليهي بأنها “موانع النهوض وأصالة ثبات التخلف”.
يستحيل أن يأتي بائعو الشعارات بمشروع نهضوي حقيقي دون أن يتحرر الفرد من قبضة الثقافات التقليدية السائدة التي تم خلطها بشعارات الحداثة لتنتج خطاباً مسخاً ومهجناً ومشوهاً. وبدون إدارك لشرط الحداثة ومفتاحها، وهو التفكير النقدي، لا يمكن للعقول أن تتحرر من سجونها وحصونها، ولا يمكن للشعوب أن تبارح خنادقها المغلقة، وتفهم قيم الحداثة وتمارسها دون التخلص من إرث الثقافة الاستبدادية التي كرسها ثبات السلطة وثبات الحقائق لدى المكونات البدائية وثبات الأجوبة وانغلاقها.
والمثقف الحقيقي لا يستطيع أن يعيش في أرض جدباء تجرده وتسلبه كينونته، وهي الاستقلال والحرية، فيتعطل دوره ويعزل ويهمش ويحل محله المثقف الزائف المؤدلج المتملق التعبوي الذي تستخدمه السلطة في تبريراتها فتفصله على مزاجها، ليصبح تابعاً خانعاً وأداة لخدمة السياسي بدلاً من أن توظف السياسة لخدمة الثقافة والمجتمع، ويغدو المثقف الحقيقي المؤنسن محاصراً من كل أنواع الاضطهادات السلطوية والثقافية والاجتماعية، فهو العدو المشترك للسلطة والثقافات البدائية السائدة التي تحمل ذات الثقافة العشائرية والطائفية، التي تقاوم كل تغيير وتحول دون تحقيقه.
ومواجهة المثقف الحقيقي، الذي يقف على مسافة واحدة من كل أنواع الاستبداد، للثقافات المغلقة ستكلفه ثمناً باهظاً، وتعرضه لخطابات الثقافة السائدة من تخوين وارتداد وتكفير، وهي أسلحة تفتك بالفكر الحر، وتهدر محاولات التصحيح والمراجعة، وتودي بممكنات النهوض إلى الهلاك.
لنعد إلى الدوران في الدائرة المغلقة التي تحدث عنها د.البليهي، فالثقافات ذات البنى الموصدة “تظل تدور في دائرة مغلقة حتى ينتشلها الفكر النقدي من هذا الدوران العقيم… لتنقل الثقافة من الدوران الأفقي إلى الصعود الدائم”.
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.