غيّب الموت الملحن العراقي طالب القره غولي، الذي يعد واحداً من عمالقة الموسيقى العراقية والعربية وصاحب اعظم الالحان، عن عمر يناهز الـ 74 عاماً في مستشفى بمدينته الناصرية (جنوب العراق) أثناء تلقيه العلاج بسبب مضاعفات مرضية، منها مرض السكري الذي تسبب قبل نحو سنتين ببتر ساقه اليمنى، وبذلك يكون العراق فقد أعظم الملحنين المبدعين واسدلت الستارة على مسيرة حية وثرية لم تشبهها اية مسيرة لحنية.
نعاه زميله الملحن محسن فرحان بقوله (هو نجم كبير من نجوم الفن، هو قامة كبيرة من قامات الابداع العراقي، جف رافد من روافد النهر الكبير لفن الموسيقى، توفي ابو شوقي، توفي صديقي واخي وحبيبي طالب، اعزي نفسي).
اما المطرب محمد الشامي فقال عنه: رحل شيخ الملحنين وبصمة الأغنية العراقية، رحل من بالحانه عطر تراب العراق من الشطرة والغراف للناصرية رحل وبقيت روحه تنبض في قلب كل عراقي يتذوّق الجمال، كان القره غولي يلحّن روح الكلمة وليس معناها فقط، ولهذا سيبقى يدور بفلك غزل وشعر الشعراء وحكايات البنات العاشقات، يا ابا شوقي ياخذك الى النجف مثوى كل المبدعين وانا بانتظارك هناك.
ها هو طالب القره غولي يمضي راحلاً الى العالم الاخر هارباً من عذاباته في عالمه الارضي بعد ان منحته السنوات الاخيرة من عمره امراضا وتعبا ربما كان لا يقوى على تحمله، فكان يشعر بالحزن انه لم يعد يملك القدرة على المشي بتلك الرجل البديلة الصناعية التي تتأرجح ولم يستطع الاعتياد عليها فكانت تهرب منه، وقد حدث ذلك في فندق شيراتون ببغداد حينما كان ضيفا على احتفالية بغداد عاصمة للثقافة العربية قبل نحو شهرين، حينما قال: “كنت امشي واذا بي اجد ساقي المبتورة تطير في الهواء والرجل البديلة تركتها خلفي، وسارع بعض الاصدقاء الى نقلي الى المستشفى”، وكان رحمه الله منزعجا منها حتى انه في لحظة حزن وجزع واضح رفع بنطلونه ليري من حوله الرجل الصناعية التي تعذبه بالتأكيد.
ها هو المولود في قرية النصر (شمالي مدينة الناصرية بـ 80 كليومترا) عام 1939 ، يعود اليها بعد ان عاش 74 عاما متجولا بين المدن والبلدان والامكنة المختلفة ووسط اسماء لامعة وأضواء ملونة حاملا عوده وصحته وعافيته وابداعاته، وقد عاد اليها عليلا وحيدا لا يقوى على حمل العود رفيقه ولا يسعى الى ان يحرك اوتار حنجرته لتغني، بقدر ما كان ينعى قوته التي تشتت وعافيته التي غادرته.
الراحل خلال زيارة له للسويد في حزيران عام 2011 تلبية لدعوة من فرقة (طيور دجلة) هناك، تعرض الى وعكة صحية نقل على اثرها الى المستشفى ولكنه خرج منها بساق واحدة، اذ بترت ساقه اليمنى بسبب مرض السكري، ومن هناك بدأت معاناته التي راحت تشتد وتتطلب منه ان يزور المستشفيات كلما حدث له عارض، ويبدو ان الحزن خيّم على حياته فهاجمته الامراض الى ان خمدت انفاسه.
طالب القره غولي، تاريخ كبير من الابداع العراقي الذي لا ينسى وتراث مفعم بالجمال والعنفوان والطرب الاصيل، واحد من صناع اجمل اغاني العراق عبر تاريخه كله، واحد من صناع الطرب الاصيل، هو المطرب العراقي أو العربي الوحيد الذي غني أمام ملك وهو طفل، يقول عن تلك الذكرى: “لا أستطيع نسيان هذه الذكرى، فقد كان عمري (12) سنة آنذاك وجاءت سيارة شرطة وأخذوني إلي بيت المتصرّف ففوجئت بوجود الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله وكانا في زيارة إلى الناصرية، كان هناك مطربون آخرون كلهم كبار في السن وأنا الطفل الوحيد بينهم، جلست منتظراً وقلقا من هيبة المجلس. ثم قالوا لي غنّي فغنيت أغنية ( للناصرية ) لصديقة الملاية (تعطش واشربك ماي بچفوف ايديه)”.
طالب أول من أدخل الأغنية الطويلة في الغناء العراقي، وقال عن ذلك: “الأغنية الطويلة التي قدمتها لم تكن تقليداً للأغنية المصرية، ولكني كنت ألحن قصائد فيها معاني عميقة وقصص تحتاج إلى إعطائها حقها في التلحين للتعبير عنها، أنا لا ألحن الكلمات بل ألحن المعني الموجود داخل الكلمة، ولحن لجميع مطربي العراق الذين جايلوه او عاشوا زمنه، والعديد من المطربين العرب.
آخر نشاطاته انجازه البوم غنائي ضمن مشروع بغداد عاصمة للثقافة العربية 2013 بعنوان (غن روحي) يضم عشر أغاني من أجمل ما لحنه لكبار المطربين مثل (أغنية جذاب وأغنية راجعين وغني) وغيرها، وكان قد شارك في الحفل الغنائي الذي اقيم بالمناسبة مع المطرب فاضل عواد وغنيا معاً اغنية (حاسبينك) التي هي من الحان القره غولي.
وقال طالب ايضاً: “ان الفترة التي أفتخر بها وأعتز بها اعتزازي بكل مسيرتي الفنية هي فترة الحرب العراقية الإيرانية التي لحنت فيها أغاني لا تتكرر، إنها أغاني وليست أناشيد لأني لحنتها كأغاني عاطفية، لذلك وصلت إلى عقل وقلب المواطن العراقي. أما عمّن تبرأ مما غني أو لحن خلال الحرب فهذا شأنهم. أنا لا أتبرأ من تاريخي وإبداعي”.
قم بكتابة اول تعليق