لم أتابع بدقة ما نشرته القبس عن تخطيط الحكومة الاقتصادي والمشاكل التي استرعت الأنظار إليها، ولا إلى دقائق الأرقام التي تضمنتها، فتعليقي اليوم لا ينصب على ما تعرضت أو لم تتعرض إليه من الأرقام والتفاصيل والتنبؤات، ولكن طرأ لي، وأنا أقرأ ما دار النقاش عليه، أن هناك مشاكل ثلاثاً مهمة لم يرد لها ذكر في كل ما قرأت من أمر هذا النقاش. وهذه المشاكل هي ما أنوي تكريس الحديث لها اليوم هنا.
استقر في الكويت منذ عهد الحماية البريطانية عرف ورثته الكويت المستقلة جرى عليه العمل بغفلة من الحكومة (أعني السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً)، واستقلت به وزارة واحدة فقط من غير إشراك أحد فيه، على الرغم من أن هذا القرار هو قرار محوري تتوقف خطط التنمية الحالية والمقبلة عليه. دعني أفصح:
كانت الكويت تتسلم حصتها من عائدات البترول الذي كانت تستخرجه وتصدره شركة الـ«كي.أو.سي» K.O.C، وكانت تلك الشركة هي وحدها التي تقرر مقدار ما يستخرج سنوياً ليتماشى مع ما تستخرجه في دول أخرى، مراعية مستوى الأسعار في بورصتي البترول في نيويورك ولندن بقصد تحقيق أكبر دخل ممكن يرضي مساهميها. أما مصلحة الكويت وما تحتاجه من دخل سنوي، والمحافظة على سلامة آبار البترول، ومستقبل إنتاجياتها.. إلخ، فاعتبارات لم يأخذها أحد في الحسبان: أهملتها الكويت لحداثة المشكلة وجهل الجهات الحكومية لحداثة العهد بالمشكلة وما يصحب ذلك من تكتم الشركات العاملة، وأهملتها الأخيرة لمصالحها المتعددة الموزعة على مختلف البلاد.
لا رأي لوزارة التخطيط
فلما استقلت الكويت، وقامت فيها وزارة بترول مستقلة، استمر هذا العرف وسارت الوزارة الجديدة على ما أُلف من قبل، وصارت صادرات الكويت مما تقرره الوزارة المذكورة وحدها، آخذة بنظر الاعتبار ما يتم الاتفاق عليه في «مؤسسة مصدري البترول» المعروفة O.P.E.C. أما وزارة التخطيط، فلا يعنيها الأمر لا من قريب ولا من بعيد، كما لا يعني ذلك وزارة المالية أيضاً. وواضح أن الأمر كان من الأهمية مما ينبغي بحثه في مجلس الوزراء واشتراك الحكومة فيه ككل. ولكن العمل جرى أن تكون وزارة المالية هي «أمين الصندوق». أما وزارة التخطيط، فلا رأي لها في الأمر. أما الداعي، فقد عزل من هذه المشكلة، وكثير غيرها، لكونه «مستشاراً اقتصادياً»، فهي «ليست في دائرة اختصاصه»!
هذا ما كان جارياً أيام الجاهلية، وهو مما يجب تصحيحه الآن، كما يجب اتخاذ قرارات إنتاج من قبل الحكومة ككل، وفي ضوء وجهات نظر وزارة البترول التي تقترح الكميات المصدرة، آخذة بنظر الاعتبار طاقات الآبار الإنتاجية، وحاجة السوق العالمية، وتوصيات «مؤسسة مصدري البترول»…إلخ، وتشترك وزارة المالية فترفع اقتراحاتها، آخذة بنظر الاعتبار حاجات الإنفاق والادخار، إضافة إلى العوامل السابقة… إلخ، ثم تبدي وزارة التخطيط وجهات نظرها في هذا كله مع الأخذ بنظر الاعتبار تقدير الإنفاق للعام المقبل. وبهذه الطريقة تتقرر أمور حيوية عدة: تشييد البنية السفلية في البلد، تقرير مدخرات المستقبل، الحفاظ على طاقة آبار النفط الإنتاجية، الالتزام بتوصيات مؤسسة الدول المصدرة للبترول.. إلخ. أهذا هو ما يجري اليوم؟ والغرض من هذه التوصية أن تكون هذه القرارات مشتركة توفق بين متطلبات مختلفة في آن واحد. هذه قرارات جماعية تتخذها الحكومة بكاملها ولا تنفرد بها وزارة واحدة. أهذا ما يجري اليوم؟
أين الخبراء والاختصاصيون
الأمر الثاني الذي استرعى نظري هو أن تنفيذ الخطة التي عرضتها القبس سيتطلب بالضرورة، إضافة إلى التمويل، (وهذا بديهي)، مئات من الخبراء والاختصاصيين والمهندسين، وألوفاً من العمال المهرة، وأكثر منهم من عمال غير مهرة، وسيصل بعض هؤلاء مصحوبين بعائلاتهم، وستتطلب هذه الألوف ما لا حصر له من المعدات والآلات، ووسائل النقل الثقيلة والخفيفة، والخدمات الصحية والمدارس وحماية وسائل الأمن.. إلخ. وسينتج عن هذا كله تزايد في إعداد من سيستقبلهم المطار من الركاب، وتضخم في ما سيصل الموانئ البحرية من البضائع التي ستصل إلى ألوف الأطنان، وستتزامن هذه الفاعليات كلها في سني تنفيذ الخطة، أفحسب أحد من المخططين ما لهذه الأحداث المكثّفة من وقع على المجتمع الكويتي؟ على السكن؟ والمدارس؟ والطرق ونظم السير؟ والقضاء؟ والمستشفيات والإسعاف؟ ومطافئ الحريق؟ ورجال الأمن ووسائله؟ ومياه الشرب؟ والطلب على الكهرباء؟ هل تحتمل الأجهزة الحالية التي تضطلع بهذه الخدمات ما سيُضاف إليها من متطلبات جديدة؟
وإذا اضطرت الحكومة والمقاولون إلى إطالة مدد تنفيذ العقود وتقديم تنفيذ بعض المشاريع على غيرها لضرورتها، وتأجيل بعضها الآخر، فمن الذي يقرر ذلك؟ الحكومة؟ وأي وزارة فيها؟ وما مدد التأخير؟ وما نتائج هذا التأخير على الاقتصاد الكويتي وعلى تنفيذ المشاريع الأخرى؟
هذه المشاكل ليست من نسج خيالي، فأنا أسردها بناء على ما شهدت وخبرت يوم كنت أعمل في «هيئة الأمم»، وقد شهدت الفوضى التي يستتبعها فشل تنفيذ الخطط في مواعيدها. أوكد لمجلس الوزراء المبجل أنها قبيحة وغالية ومربكة، وأن من الحكمة تفاديها وأخذ الحيطة لها من الآن.
إفساح المجال للفئة المثقفة
هناك كلمة أخيرة أوجهها إلى معالي وزيرة التخطيط، التي أثارتها مقالات سابقة نشرتها القبس منذ أمد قصير، وما كنت أقصد إلا مداعبتها، والدكتورة الفاضلة ممن اعتز بصداقتهم من جمهرة أصحابي، وهي مؤهلة تأهيلاً نادراً للمنصب الرفيع الذي تشغله، وتستحق كل نجاح وتشجيع للمضي في ما هي ماضية فيه. وأنا أتقدم بنصحي إليها أولاً خدمة لمصلحة الكويت، وثانياً لتمكينها من إنجاز ما يتوقعه الجمهور منها، ولأني أعتبر نجاحها نجاحاً لتجربة سياسية بالغة الأهمية في تاريخ الكويت السياسي، وهو: إفساح المجال للطبقة المثقفة لخدمة البلد، ولذا أراني ملزماً، لا بحكم أواصر الصداقة بيننا فحسب، بل لما تمليه مصلحة الكويت نفسها لأسدي لها نتيجة خبراتي الطويلة في هذا الحقل.
نصيحتي يمكن تلخيصها كالآتي: في الكويت اليوم الإصلاح الاقتصادي لا يتوقف على رسم وتنفيذ مشاريع إعمارية ضرورية فقط. لا نقاش في ضرورة تنفيذ أمثال هذه المشاريع، ولكن الذي يفوق ذلك أهمية هو تحرير القطاع الخاص مما كبّلته به الأجيال السابقة من قيود تمنعه من الأداء والانطلاق، ومساعدته بتأمين القوة العاملة المدربة ليستخدمها وينتج. هذا المجهود لا يكلف الخزينة شيئاً، ولكن عواقبه الإيجابية لا توصف. لم لا يتم تواصل مستمر في لجنة مشتركة من غرفة التجارة والصناعة ووزارة التجارة ووزارة التخطيط لإزاحة العوائق التي تعترض المشروع الفردي في الاقتصاد الوطني وتحرير السوق منها؟ إن الاقتصاد الوطني يحتاج إلى الفرد المبدع لتحريك الماكينة الاقتصادية، وإلى استخدام اليد العاملة، فاطلقي له العنان. يكون هذا أعظم إسهام للكويت لا في دفع العجلة الاقتصادية فحسب، بل لما ينطوي عليه من الاستقرار السياسي الذي لا حاجة بي إلى الخوض فيه. نصيحتي الأولى والأخيرة هي: عليكم بالقطاع الخاص أولاً، فالقطاع الخاص ثانياً، والقطاع الخاص ثالثاً وأخيراً. كتب الله لكم النجاح والتوفيق.
فخري شهاب
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق