سوريا وما يجري على ارضها من أحداث تسيطر على الاقلام المخلصة ــ وغير المخلصة ــ ايضا في تحليلها للأوضاع الميدانية والسياسية، ولم أفكر بأن أكون طرفا في المداولات الآنية.. ولكني أعود لذاكرتي وأستعين بأوراق السبعينات من القرن الماضي ووثائق الجامعة العربية الخاصة باللجنة السداسية لمتابعة موضوع جنوب عُمان واختياري مع المناضل محمد يزيد عن الجزائر للالتقاء بممثلي ثوار ظفار، وذلك ضمن اللجنة المشار إليها التي تشرفت بحمل مسؤولية تكليف بلدي لتمثيلها في هذا الجهد.
ويعتبر محمد يزيد من الشخصيات البارزة في جبهة تحرير الجزائر، إذ كان ناطقا باسمها وعضوا مفاوضا صلبا مع إخوانه الذين واجهوا الفرنسيين في اجتماعات ايفيان الثانية في مارس 1962 والتي أسفرت عن اعتراف فرنسا بأحقية الشعب الجزائري في تقرير مصيره واستقلاله عن فرنسا بعد نضال متواصل عبر العقود حتى إعلان الجبهة في 1954.
لابد من الكلمات السابقة تمهيدا للاقتراب المباشر من الموضوع الذي أود طرحه.
ففي جلسة مسائية من صيف 1975 بمسقط الهادئة بعد يوم مضن من الاجتماعات اندفع محمد يزيد بصوته الهادر مخاطبا أعضاء اللجنة ومن بيننا الأخ فاروق القدومي مراقبا عن فلسطين قائلا: «عندما تم تبادل وثائق الاعتراف الفرنسي باستقلال الجزائر في إيفيان تقدم إليّ أحد أعضاء الوفد الفرنسي مصافحا ــ والحديث لمحمد يزيد ــ قائلا: الآن نحن في مرحلة جديدة معكم فأرجو ان توضح لي مقولة المليون شهيد جزائري وهل أنتم متأكدون من اتهام فرنسا بمقتل كل هذا العدد»، فجاء الرد واضحا بأن جبهة التحرير الجزائرية تؤكد على المليون شهيد ويمكن أن يكون بينهم من لم يقتل بيد الفرنسيين، ولكننا نعتبرهم شهداء في سبيل أرضهم، فمقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي لم تتوقف منذ احتلال فرنسا للجزائر عام 1830، وبقيام جبهة التحرير الوطني 1954 تم الاتفاق بين جميع الأطراف والتوجهات على الانضواء تحت مظلة الجبهة، وبالتالي أجمعت كل الأطراف على احترام سياسة وأساليب معركة التحرير المتفق عليها وعدم القبول بأي خروج عن تلك المقررات، بل القضاء على كل نتوء او صوت ناشز خارج اطار الجبهة، وربما قمنا بعمليات إبادة للمناوئين والانتهازيين وعملاء المستوطنين الفرنسيين حماية للثورة ووفاء لشهدائنا حتى تم {تنظيف} الساحة الجزائرية من كل التناقضات فأصبح التقيد بالتنفيذ واجبا والنقاش مؤجلا الى ما بعد التحرير، ليس تسلطا ولكنه الحزم المطلوب.
هذا هو أسلوب الثورة الحقيقية المؤمنة بأن طريق التحرير واحد ولا نقبل بمقاسمته او تقسيمه حسب الأمزجة والاهواء.. اذ لا قبول بالخروج على ما تم الاتفاق عليه بميثاق الجبهة ومجلسها الوطني وحكومتها المؤقتة ولا مجال للاجتهادات دون هذه المؤسسات.. وهذا الأسلوب هو الذي قاد الجزائر إلى النصر.. لان العدو لم يستطع ان يهزم الثورة من خلال العناصر الدخيلة عليها بمعارك جانبية.
كان هذا الكلام موجهاً إلى الفلسطينيين اذ ذاك وكانت ساحتهم تضم اكثر من اربعين حزباً وتنظيماً.. الخ.
هذه المعاني استحضرها الآن مع أنقى ثورة ضد أعتى الأنظمة قسوة وأنانية وتسلطاً وضراوة في مطلع هذا القرن، فقد تجاوز عدد الشهداء والضحايا المائة ألف على مدى السنتين الماضيتين، ومازالت سوريا قادرة على الشهادة والعطاء الذي تستمد معانيه من تاريخ أنجب تواريخ وانتصارات مادية وفكرية للمنطقة بأكملها.. هنا أخشى سوء الظن بأني اتطوع أو اتطفل بتقديم نصيحة أو موعظة للذين ينزفون دماً وألماً في سوريا، فهم الأدرى والاجدر برسالتهم وهم أعلنوها، سورية أصيلة، أصيلة لم يستشيروا احداً في انطلاقتهم ولم يستعينوا بغير الله وشعبهم في استمرارها حتى فرضت نفسها على الخيرين والاشرار سواء بسواء في هذا العالم، وأشد ما يخشاه المتابعون للشأن السوري هو التقافز البهلواني للمجموعات والاتجاهات المتناقضة للفوز بالوهج الاعلامي وتصدر الحدث على حساب اهداف الثورة وتضحياتها.. فما هي المصلحة في استعراض احدهم وهو يمضغ كبداً نيئة، وأين البطولة في نبش قبر أبلت حجارته وترابه أربعة عشر قرناً من الزمن مع الرضوان على صاحبه، وما معنى البيانات التي تستمد بركاتها من خارج الارض السورية، قد تكون هذه القضايا تافهة.. ولكنها تحمل مخاطر النفخ فيها من قبل أعداء سوريا.. بل احتمال افتعالها وغيرها لتشويه معاني التضحيات الحقيقية للجيش الحر على الأرض السورية، فهل من عودة الى دروس الثورة الجزائرية ففي التاريخ عبر لمن يتأمل مساره، ولعل ظن الواثقين ببلوغ هذه الثورة اهدافها يصدق في قدرة مواجهتها السياسية من ائتلافيين وغيرهم على الانضواء والانصهار في الجبهة الموحدة التي يسع ظلها جميع مناضليها على امتداد الارض الشامية التي تضم جميع مكونات الشعب السوري واتجاهاتها المؤمنة بخط الثورة مع الاحتفاظ بخصوصيتها ما دامت مؤمنة بالهدف وملتزمة بالخطوات التنسيقية والتنفيذية فهل يصدق الظن ويتحقق الأمل.
سليمان ماجد الشاهين
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق