لا أزال أتذكر ذلك المشهد أوائل الثمانينيات في منطقة كيفان، سيارة صغيرة معبأة على آخرها بالصحف، ولا توجد فيها مساحة خالية سوى للسائق الذي يقود ببطء شديد بحثاً عن الزبائن الذين أدمنوا بضاعته، وصاروا هم من يبحثون عنه، ويتدافعون من حوله كأنهم أطفال عند عربة الآيس كريم في فصل الصيف.
تلك الظاهرة الليلية بعد صلاة العشاء لا تحدث سوى في شهر رمضان المبارك، حيث تعمد الصحف المحلية على ما يسمى بالصدور المبكر لطبعة الغد حتى تضرب عدة عصافير في وقت واحد، مثل ضمان معدلات توزيع أعلى من الأيام العادية لأن الصائم لا يلتهم الصحيفة في البيت أو العمل كما يفعل وهو مفطر ويتسلى بصحن “لقيمات تسبح في بحر شيرة دافئة”، والتوزيع “بيكتر الإعلان” والإعلان “بيكتر المصاري”.
الصدور الرمضاني المبكر خلق حالة من الارتباك الزمني نعيشها حاليا بسبب “تويتر”، وهي “المقال الفلاني قرأته اليوم أو أمس” لأنك تقرأ صحف الخميس يوم الأربعاء، وصحف الأربعاء يوم الثلاثاء وهكذا، وهذا مقالي اليوم بين أيديكم تشاهدونه الآن في شاشة هواتفكم الذكية ونحن في يوم الأربعاء رغم أن المكتوب في الأعلى هو تاريخ يوم الخميس!! هذا يعني أننا سبقنا العالم بحالة الارتباك الزمني بثلاثة عقود تقريبا لأننا عشنا ذلك في كل شهر رمضان مر علينا، حتى وصلنا إلى مرحلة مواقع الصحف الإلكترونية واللابتوب و”تويتر” الذي ضرب عادة ملامسة الصحف مع شرب القهوة في الصباح في مقتل. في عام 1994 كما أذكر وكنت حينها أعمل في جريدة “السياسة”، قرر رئيس التحرير العميد أحمد الجارالله مخالفة السرب و”تجريب” الاستمرار في مواعيد الصدور المعتادة، وخرجت السياسة أول أيام رمضان تحت عنوان “السياسة… صباحية طازجة”، وما أتذكره من تلك التجربة التي استمرت، هو أن جمهور الرياضة أقبل على “السياسة” لأنها تنشر أخبار مباريات المساء في صباح اليوم التالي مباشرة وليس بعد يوم كامل، كما تلقفت “السياسة” إعلانات العزاء لأن أقرباء الفقيد الغالي لا يستطيعون تكييف موعد وفاته على مواعيد الصحف “المطيورة”، الشيء المهم الذي كسبته “السياسة” من تجربة الصدور الاعتيادي في رمضان هو المتابعة الإخبارية المنفردة لخيوط الأحداث بعد أن كشفت الصحف الأربع كل أوراقها في المساء الباكر.
الآن دخلت المنافسة الصحافية عناصر جديدة تهدد مصير المطبوعة الورقية مع تزايد القنوات الإخبارية وتقلص خاصية السبق الصحافي، حتى الصحيفة الورقية “باتت تدمر” نفسها “لأنها تنشر على الإلكتروني كل ما سينشر في الورقي الأمر الذي يجعلها تولد منزوعة الروح في الصباح.
السؤال الذي يشغلني في هذا الموضوع هو: ماذا لو أغلقت الصحف المحلية مواقعها الإلكترونية؟ هل ستحسن المطبوعة الورقية من أوضاعها التنافسية؟ هذه الفكرة برأيي ستحيد الدور التخريبي الذي يمارسه “تويتر” في سحب القراء نحو “اللنكات” وليس “الوريقات”، ولن تكون خطوة تراجعية طالما أنها ستساهم في إرجاع الهيبة للمطبوعة الورقية.
لقد فقد شهر رمضان شيئاً من حلاوته بعد أن تحول إلى “سباق” محموم في كل شيء، وآخر الضحايا بساطة “القرقيعان” وفرحة الأطفال وقراءة صحف الغد واليوم لم ينته بعد.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق