ليس إعلان معركة، ولا دقا لطبول حماة قتال ولا نفير حرب، بل رسالة كي ترخي الحرب سدولها في أقدس الشهور حرمة، وحين تقترب من جبل «المدافع» كما يحلو لأهالي مكة المكرمة تسميته، تستعذب صوت راجمات الجبهات ولا وقع الاقتتال، لكن بلغة جمالية مغايرة، فهذا المدفع عرفا واصطلاحا هو رسول سلام ونسائم محبة تحمل في كنفها رسائل إيمانية بحلول موعد الإفطار الرمضاني تزامنا مع علو صوت المكبرات في جنبات المسجد الحرام.
ستة آلاف طلقة على مدار أربعين عاما – العمر المعتقد للمدفع الرمضاني بمكة – بواقع 150 طلقة شهريا من أول ليلة في رمضان، وحتى آخر الأذون بدخول عيد الفطر المبارك، ويعتبر مدفع رمضان في مكة المكرمة آلة يتم نقلها بواسطة مركبة من مقر إدارة المهمات والواجبات إلى مكانه الذي خصص له بجبل من جبال مكة المكرمة المتميز بارتفاعه وخلوه من السكان وقربه من المسجد الحرام وأطلق عليه جبل أبو المدافع.
الروايات التي ذهبت في عدة مناح عن تاريخ انطلاقته في مكة المكرمة، لاقت عدة تجاذبات تاريخية مؤرخة لقدوم المدفع الرمضاني إلى مكة المكرمة، من أبرزها قدومه في عهد المماليك الذين حكموا مصر وارتبطوا ارتباطا وثيقا بالحجاز، أي قبل 500 عام، حيث كانت المدافع موجودة في منطقة القشلة والقلاع، ومنهم من رجح وجوده بأن له قرابة المائة عام، وآراء ذهب إلى العقود الأربعة الفارطة.
وقال الدكتور عبد اللطيف بن دهيش، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة أم القرى، إن دخول المدفع الرمضاني إلى مكة المكرمة لم يكن تاريخيا منذ عهد قريب، بل يمتد إلى قرابة الألف عام، وهو العمر الزمني للمماليك في مصر، بعد أن قويت وشائج التلاحم بين الحجاز والمماليك من جهة، وبين المماليك واليمن من الجهة الأخرى، وسيقت المدافع في حينها على جبل القشلة إيذانا بالدخول الفعلي للإفطار في شهر رمضان المبارك.
وأفاد بن دهيش، أنه تقليد إسلامي اعتادت عليه معظم الدول الإسلامية وهو يهدف إلى الشروع الفعلي في عملية الإفطار نظير عدم توفر وسائل إعلام مباشرة آنذاك، فاستعيض عنه بالمدفع لتغطية جنبات مكة السكانية والتي كانت بشكل كبير تتمركز حول الحرم المكي الشريف، وأحياؤها كانت متصلة اتصالا كاملا بجبل أبي المدافع.
قصة مدافع مكة تحمل في تلافيفها مواقف تندر وتفكه، وهي حكاية اقترنت بأحد السلاطين المماليك ويدعي خشقدم في (865 هـ – 1461م)، وحين وصول ترسانة جديدة من الأسلحة لديه، أراد تجريبها ومعرفة مدى قوتها وجسارتها، وكان من باب المصادفة لا أكثر، تزامن وقت إطلاقها مع دخول أول ليالي رمضان المبارك، وهو ما لاقى استحسانا وتقبلا كبيرين من قبل المماليك وقتئذ، فقرر بناء على ذلك، أن تكون عادة يومية طيلة شهر رمضان المبارك، وخصص لها مواقع ثابتة وفق محددات زمنية ثابتة مع الغروب، وعطفا على ذلك استلهم الفكرة السلطان «سرورهم»، ومضى في تطبيقها طيلة فترة حكمه بعد ذلك، وجرى بها العرف والعادة مع كل إفطار.
وأفاد محمد الحارثي، أستاذ التاريخ الإسلامي المعاصر في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن قصة المدفع الرمضاني نشأت من مصر وانتقلت إلى كثير وكثير من الأمصار والأقطار الإسلامية، وعرف عنه تلازمه بشهر رمضان المبارك حتى ساعات رؤية عيد الفطر، وكان هذا المدفع هو الناطق الرسمي لدخول عيد الفطر المبارك، وهو مستمر إلى وقتنا الراهن عن طريق فريق عسكري أسندت إليه هذه المهمة الجميلة والتي تعتبر جمالا واستثناء للحجاز، وأحبها عبر عقود من الزمن كل من سكن مكة وأقام بها وطاب له المقام بها.
وأفاد الحارثي أنه استنادا إلى بعض كتب التاريخ، فإن بعض الجنود في عهد الخديوي إسماعيل كانوا يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوت في سماء القاهرة، وتصادف أن كان ذلك وقت آذان المغرب في أحد أيام رمضان، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدا جديدا للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، وقد علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل بما حدث، فأعجبتها الفكرة، وأصدرت فرمانا يفيد باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفى الأعياد الرسمية، بدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولا، القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى، ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقل إلى مدينة الكويت حيث جاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح، وذلك عام 1907، ثم انتقل إلى كل أقطار الخليج قبل بزوغ عصر النفط وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في إندونيسيا سنة 1944.
جريدة الشرق الأوسط – السعودية
قم بكتابة اول تعليق