طالب الشيخ محمد الصباح المجلس والحكومة لوقف الاتجاهات المالية الخطيرة للإنفاق العام، وحذر من انعكاسات خطيرة على نسيج المجتمع في حال فشلت السلطتين في ذلك، معتبرا ان السياسة المالية الراهنة لا يمكن ان تستمر، وضرورة المحافظة على سلامة النظام المالي للكويت وحماية رفاه الاجيال القادمة.
وتطرق وزير الخارجية السابق الشيخ الدكتور محمد الصباح خلال محاضرة له في جامعة لندن للاقتصاد إلى تعارض مفهوم التنمية المستدامة في دول مجلس التعاون الخليجي مع مواردها الناضبة، معتبرا الكويت تمارس سياسة توزيع الثروات، واعتمادها بشكل رئيسي على 95 بالمئة على النفط يجعل منها الدولة الأكثر تعرض للمرض الهولندي ولظاهرة لعنة الثروة.
وبين ان الربيع العربي دفع الكويت لرفع معدل الانفاق العام من 40 مليار دولار عام 2010 الى 57 مليارا دولار عام 2011، وتوقعات ان يصل الى 69 مليارا للعام الجاري 2012، أي بمعدل زيادة يبلغ 31.5 بالمئة سنويا.
وفيما يلي نص المحاضرة:
قيل قديما ان الاقتصاديين يعودون الى النظرية ويتساءلون عما اذا كانت ستنجح في واقع الحياة، وبالمثل، ينظر الاقتصاديون الى الأشياء الناجحة في الحياة العملية ويتساءلون عما اذا كانت تصلح من ناحية نظرية.
فالاستدامة المالية هي مؤشر وضع للإجابة عن السؤال التالي: هل الموازنات المالية الراهنة أو المخطط لها متلائمة مع الدين المستقر مقارنة مع معدلات الناتج المحلي العام في ظل معدلات الفائدة والنمو وأسعار الصرف الحقيقية؟ بمعنى آخر، هل تمكن السياسة المالية الراهنة البلاد من سداد ديونها ام انها ستقودها الى الافلاس؟، ولقد اتخذ الجدل حول القواعد المالية والاستدامة المالية في ظل الموارد الناضبة، منحى مختلفا تماما، فهذا الجدل يتخطى مسألة الافلاس الى قضايا أخرى معنوية وأخلاقية.
فالتحديات التي تواجه صناع القرار في الاقتصادات ذات الموارد الناضبة لها أبعاد متعددة، وايجاد حل لهذه التحديات عملية صعبة وتتطلب قرارات صعبة ومقايضات مؤلمة، والحقيقة البسيطة المتعلقة بطبيعة الموارد في هذه الاقتصادات، هي انها شديدة التقلب وغير مؤكدة وآيلة للنضوب.
أولا: قابلية النضوب
الكأس المقدسة لصناع القرار في الاقتصادات ذات الموارد الناضبة تتمثل في العثور على قواعد مالية من شأنها زيادة رفاهية المجتمعات دون نضوب الموارد للحد الاقصى الممكن، وبحل هذه المشكلة، نحصل على المعدل الأمثل من النضوب الذي يؤكد المساواة بين الأجيال والاستدامة المالية، ولقد بين هارتويك في مقالته الشهيرة بعنوان “المساواة بين الأجيال والاستثمار في ريع المصادر الناضبة” إن السياسة المالية المستدامة هي التي يمكنها تحويل مخزون مؤقت قابل للنضوب من الموارد الطبيعية إلى مخزون من الأصول المالية التي تدر مصدر دخل دائما.
فالمساواة بين الأجيال تتطلب من الجيل الحالي اعتماد سياسة مالية تسمح بتجميع الأصول المالية، وبالتالي يمكن لعائد هذه الأصول تمويل العجز المستدام عند نضوب موارد الدولة، بمعنى أنه يجب أن يتم التعامل مع معدل النضوب باعتباره محفظة مالية يتم تحويل مصادر الثروة فيها إلى ثروة مالية.
ثانيا: التقلبات وعدم اليقين والمرض الهولندي
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، كيف يمكن رسم وتطبيق سياسة مالية تقلص إلى الحدود الدنيا التأثير الضار لتقلبات أسعار الموارد وتحصين الاقتصاد أمام أعراض المرض الهولندي؟
فالسياسة المالية يمكنها تحصين الازدهار في الموارد من خلال تحويل جميع عوائد الموارد إلى صندوق موارد، وميزة هذا الصندوق أنه يمكن أن يحدّ من أعراض المرض الهولندي من خلال تحصين الاقتصاد، ومن تقلبات أسعار مصادر الثروة، ويمكن لمثل هذا الصندوق أن يلعب دورا في استتباب الاقتصاد من خلال إجراءات دورية مضادة، والاضطلاع بدور صندوق التوفير للأجيال المقبلة، فالقاعدة النرويجية تذهب إلى ضرورة إنفاق العوائد على صندوق موارد، أما القاعدة الكويتية فهي أن المهم هي قواعد التوزيع وليس قواعد الإنفاق.
ثالثا: لعنة الموارد
ومن الأبحاث المهمة التي تناولت مسألة الموارد الطبيعية ما كتبه غيلب 1988 وأوتي 1990 وساكس وورنر 1995 أوجدت تقديرا متزايدا بتأثير نعمة الموارد الطبيعية على نمط النمو الاقتصادي والتنمية، وأثبت ساكس وورنر على وجه الخصوص أن الدول فقيرة الموارد الطبيعية تفوق الدول الغنية بالموارد في النمو الاقتصادي، وقدرا، أن الزيادة بنسبة 15 بالمئة في معدل الموارد الطبيعية إلى معدل الناتج المحلي خفّضت النمو المتوقع بأكثر من 1 بالمئة سنويا، ويبقى الجدل دائرا بشأن الأسباب.
وساد الاعتقاد دائما بأن الطبيعة المغرية لعوائد الموارد الطبيعية، كثيرا ما خربت السلوك الحكومي، فخلال الازدهار في الموارد، تدفقت العوائد بسهولة إلى ميزانيات الدول، أما الانخفاض الكبير في الأسعار، فقد أغرى الحكومة للاتجاه الى التكسب السياسي، وممارسة لعبة “السياسة بلا حدود”.
ففي بحثه “مفارقة الوفرة” المنشور 1997 ربط تيري كارل وفرة الموارد بالفساد والسلطوية والتراجع الاقتصادي، في حين عزا كوليير ايتال في 2005 النزاعات العنيفة والحروب الأهلية الى الاعتماد المفرط على تلك الموارد في تلك الدول.
فهل ستظل الدول الغنية بالموارد كذلك الى الابد؟ يقول باتاشاريا وهادلر 2009 ان الامر ليس كذلك، فقد درسا 124 دولة خلال الفترة من 1980 ــ 2004 وتبين لهما ان العلاقة بين وفرة الموارد والفساد تعتمد على نوعية المؤسسات الديموقراطية، فغياب الشفافية والمصداقية وأنظمة الرقابة والتوازن في أجهزة الحكم، تمثل كلها اسبابا رئيسية لانتشار الفساد في الدول الغنية بالموارد.
لذلك، فإن النظر الى الواجب الاخلاقي المتمثل بالمساواة بين الأجيال، وفي ظل المخاوف الاقتصادية بشأن الاستقرار والمرض الهولندي والمخاوف الاجتماعية والسياسية من لعنة الثروة، فإن المرء يتوقع من دول مجلس التعاون الخليجي ان تتبع سياسة مالية محافظة، إلى ان جاء الربيع العربي.
رابعا: الربيع العربي ودول مجلس التعاون
تمتلك دول مجلس التعاون مخزونا ضخما وطويل الأمد من الموارد الهيدروكربونية وتعتمد عليه بشكل كبير، ففيها 37 بالمئة من احتياطي النفط العالمي و 22 بالمئة من احتياطي الغاز الطبيعي، ويتوقع ان يمتد انتاج الكويت وقطر والامارات العربية المتحدة من النفط والغاز الى مائة عام، والمملكة العربية السعودية الى 75 عاما، وفقا لمستويات الانتاج الحالية، اما البحرين وعمان، فمن المتوقع ان تستنفدا مخزوناتهما خلال العقدين المقبلين.
واعتبارا من 2011 وصل احتياطي قطر إلى أكثر من 770 الف برميل من النفط للفرد الواحد و142 الفا في الامارات و96 الفا في الكويت و16 الفا في السعودية و5 آلاف في عمان و3 آلاف في البحرين.
كما تعتمد دول الخليج بدرجة كبيرة على القطاع النفطي كمصدر للعملات الاجنبية، فخلال الفترة من 2000 – 2010 شكل النفط والغاز 35 بالمئة من اجمالي الناتج المحلي العام لهذه الدول شكل 77 بالمئة من إجمالي العوائد من العملات الصعبة، وتعتمد حكومات دول مجلس التعاون الخليجي على هذا القطاع تحديدا في تمويل ميزانياتها، حيث يمثل قطاع الهيدروكربون حوالي 80 بالمئة من عوائد حكومات دول مجلس التعاون خلال تلك الفترة.
الكويت الأكثر اعتماد على النفط
ومن الملاحظ ان الكويت هي الأكثر اعتمادا على النفط من بين كل دول المجلس، فخلال الفترة من 2006 – 2010 شكل النفط حوالي 95 بالمئة من الإيرادات الحكومية و 93 بالمئة من الصادرات، وهذه الحقائق تجعل الكويت الأكثر تعرضا للمرض الهولندي ولظاهرة لعنة الثروة.
وحتى فيما يتعلق بهياكل الميزانيات، يبدو ان الكويت تتبع سياسة مالية يغلب عليها النمط الاستهلاكي مقارنة بدول المجلس الأخرى، وخلال الفترة من 2000 – 2009، شكلت النفقات الجارية أكثر من 88 بالمئة من نفقات الحكومة، بينما وصلت هذه النسبة الى 83 بالمئة في الإمارات و80 بالمئة في السعودية و76 بالمئة في البحرين و72 بالمئة في عُمان و70 بالمئة في قطر.
ومما يثير القلق أكثر هو الهيمنة الحكومية على قطاعات الاقتصاد غير النفطية، إذ تسجل الحكومة حضورا مهيمنا على النشاطات الاقتصادية المحلية غير النفطية وبشكل لا يضاهيه مستوى في دول مجلس التعاون الأخرى.
كما وصل الانفاق الحكومي في الكويت خلال الفترة من 2000 – 2009 الى حوالي 80 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي، وكانت أقرب الدول الى الكويت في ذلك عُمان والسعودية 66 بالمئة والإمارات والبحرين 36 بالمئة وقطر 64 بالمئة.
تداعيات الربيع العربي
سرّع الربيع العربي زعزعة الاستقرار المالي لدول مجلس التعاون، وأجبر حكومات هذه الدول على اتخاذ خطوات وسياسات شعبوية، فقد زاد الانفاق الحكومي بمعدل 20 بالمئة عام 2011، وارتفع من 300 مليار دولار عام 2010 الى 360 مليارا عام 2011، وذهب معظم هذا الصرف على خلق فرص عمل وزيادة الأجور والإسكان وبرامج اجتماعية أخرى.
ومن بعض الأمثلة على النفقات ذات الصلة بالربيع العربي في دول مجلس التعاون الخليجي، نجد ما يلي: تعهدت حكومة مملكة البحرين بإنفاق 6.6 مليار دولار على قطاع الاسكان لمواجهة الانقسام الطائفي الخطر، وقدمت الإمارات اعانات غذائية جديدة ورفعت الرواتب التقاعدية بمعدل 70 بالمئة والتعهد بإنفاق 2 مليار دولار على شكل قروض اسكانية في الامارات الشمالية، أما حكومة أبوظبي فقد خصصت 600 مليون دولار لتقديمها كقروض اسكانية لمواطنيها في الإمارة، وأعلنت المملكة العربية السعودية عام 2011 برنامج بقيمة 130 مليار دولار لمكافحة البطالة في صفوف الشباب ولتقديم خدمات اجتماعية أخرى، أما حكومة عُمان فتعهدت بتخصيص 1.3 مليار دولار كمنافع اجتماعية ولخلق 50 ألف فرصة عمل جديدة في القطاع العام، ومثلها تعهدت الحكومة القطرية بتقديم خدمات اجتماعية بقيمة 8.1 مليارات دولار بما في ذلك زيادة كبيرة في رواتب القطاع العام.
أما فيما يتعلق بإنفاق الكويت ذي الصلة بالربيع العربي فقد قفز معدل الانفاق العام من 40 مليار دولار عام 2010 الى 57 مليارا دولار عام 2011، ويتوقع ان يصل الى 69 مليارا لعام 2012، أي بمعدل زيادة يبلغ 31.5 بالمئة سنويا.
وأشارت منظمة العمل الدولية في تقريرها ان معدل البطالة في دول مجلس التعاون عام 2009 وصل الى ضعفي المعدل العالمي 12.8 بالمئة، وهو ما يفسر التركيز في الانفاق العام على خلق فرص عمل جديدة.
وتمارس حكومات دول مجلس التعاون المزيد من الضغوط لتطبيق إجراءات مشددة في مجال الإنفاق العام، فرغم الموقع المالي الإيجابي حاليا لها إلا أن برامج الإنفاق لا يمكن أن تستمر اكثر، فالاضطرابات المستمرة في أسواق المال العالمية وأزمة اليورو واحتمال انتقال العدوى إلى الأسواق العالمية تسلط الضوء على مخاطر الانخفاض المحتمل لأسعار النفط، ومع اتساق نطاق المخاطر عالميا، فإن تدفقات رأس المال إلى دول الخليج قد تنخفض هي الأخرى، كما أن مداخيل دول المجلس من أصولها الأجنبية قد تتراجع، وتنبأ البنك الدولي بتراجع أسعار النفط بمعدل 3.4 بالمئة خلال العام المقبل 2013، وبتراجع آخر بمعدل 0.5 بالمئة عام 2014.
وعليه، فإن تضافر ارتفاع الإنفاق العام وتراجع أسعار النفط سيشكلان تحديات خطيرة أمام حكومات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومن ناحية أخرى، فإن سعر نقطة التعادل للميزانية ارتفع بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة وسيستمر في الارتفاع إذا استمرت الاتجاهات الراهنة لحركة السوق.
ففي دراسة حديثة للجنة التنافسية الوطنية في الكويت تنبأ القائمون على الدراسة أن تواجه الكويت عجزا خطيرا في الميزانية، خلال أقل من عشر سنوات، حتى في ظل أفضل السيناريوهات تفاؤلا بمستقبل أسعار النفط إن لم يتم ضبط الإنفاق العام.
وأكدت دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي ما ذهبت إليه اللجنة الكويتية، فقد حذّر الصندوق الكويت من عجز في الميزانية يلوح في الأفق إن لم يتم خفض الإنفاق العام بمعدل 25 مليار دولار مع حلول عام 2017، وللأمانة فإن محافظ بنك الكويت المركزي السابق الشيخ سالم عبدالعزيز الصباح وصف في كتاب استقالته المشهد الاقتصادي الراهن بأنه يتجه نحو فوضى حالية غير مسبوقة، وأكد أن الوقت يمر سريعا وأن الكويت بحاجة إلى استخدام الفوائض المالية الراهنة لإجراء الإصلاح الاقتصادي بدلا من التهرب منه.
وبالإضافة إلى ذلك، أكد وزير المالية في بيان له أمام مجلس الأمة قبل عدة أسابيع، أن الحكومة تنفق 73 بالمئة من عائدات النفط على الرواتب والأجور، وقدَّر أن أسعار نقطة التعادل لميزانية الكويت ستكون أقل من 107 دولارات، وأنه إذا استمر الاتجاه للإنفاق العام، فإن سعر نقطة التعادل، وفق تقديرات الوزير، سيصل إلى 213 دولارا.
باختصار
ان السياسة المالية الراهنة لا يمكن أن تستمر، ويجب على الحكومة ومجلس الأمة العمل معا على وقف الاتجاهات المالية الخطيرة للإنفاق العام، وإذا فشلا في عمل ذلك الآن، فستكون لذلك انعكاسات خطيرة على نسيج المجتمع الاجتماعي والاقتصادي، وينبغي الحفاظ على سلامة النظام المالي للكويت وحماية رفاه الأجيال المقبلة.
المصدر: جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق