قبل أن يودعنا المرحوم أنور عبدالله النوري بأيام معدودة رفع يده الى الباري عز وجل وكتب بمداد قلمه على صفحات القبس «ربنا آمنَّا في أوطاننا واجعل اهتمام قادتنا وكبار سياسيينا مستقبل الكويت شغلهم الشاغل».
هكذا بقيت سيرته الى آخر يوم في حياته، يدعو وينصح ويهدئ من روعة الغاضبين.
المعلّم الوقور
هو ذاك المعلم الوقور في المدرسة المباركية نشأ في بيت علم وفي حضن أب عالم، كانت رحلة عمره عبارة عن حكايات ومواقف مؤثرة دونها في كتابه في «مرابع الذكرى» وهو خلاصة تجربة كانت مدار اهتمام أبناء جيله ومن بعده.
لقد منَّ الله عليه بحرية الاختيار فلم يجبر على عمل ولم يكن هناك ما يدفعه الى تركه بل دائماً كان هو صاحب القرار والاختيار، كان رحمة الله عليه شخصا توافقيا وإنسانا مرتاحا مع نفسه، كما وصفه أحد أصدقائه المقربين، فيه عطاء للخدمة العامة وللعمل التطوعي، شخصية وطنية بحق، نال هذه الصفات بأعماله ومن جميل عطائه، تلك الصداقات التي أوجدها خارج الوظائف والمناصب التي شغلها وبقيت زاده وكان وفياً لها على طول الخط.
ارتبط اسمه بالتعليم، أكثر من أي شيء آخر، وفي كل مركز كان يتولاه يكون له شأن فيه. صحيح انه عمل في قطاع البنوك والاستثمار لكن مسار حياته الوظيفية قضاها في التدريس وفي التربية وفي الجامعة والوزارة.
يقول المرحوم أنور عبدالله النوري : لو عاد الزمن به الى الوراء الى تلك الرحلة الطويلة، لما كان وقع في ما يحتسبه من أخطاء، لقد أبحر في ثنايا تلك الحياة بما يمليه عليه ضميره وواجباته وقد يصيب وقد يخطئ في ذلك.
الدراسة في لندن
ينقل الزميل خليل علي حيدر جزءا من قصته بالدراسة، من خلال كتابه «في مرابع الذكرى»، وسفره الى لندن عن طريق بيروت عام 1957.
اخذ انبهارنا بلندن ينمو منذ وطئت اقدامنا مطارها الضخم، كانت اولى النصائح التي قيلت لنا «لا تحدق النظر اذا رأيت فتى يحتضن فتاة او يقبلها»، وهو اول ما رأيناه ولم نستطع الالتزام بالنصيحة، في لندن كذلك، كان النوري يحمل معه شوقه الكويتي الشديد الى الغيوم والامطار عكس الانكليز الذين يعشقون السماء الصافية والشمس الساطعة، في احد الايام، يقول النوري في مذكراته «كنت اركب الحافلة وكان الوقت صيفاً، وكانت السماء تملأها الغيوم ورذاذ المطر يتساقط ولا اثر للبرد، فأي جمال للطقس اجمل من هذا، لشاب قادم من صحراء الكويت! التفت الي من مكان يجلس الى جانبي.. وقلت له: الطقس جميل اليوم، فما كان منه الا ان نظر الي شزراً وقال بحدة: أتسخر مني؟».
عندما ترك النوري لندن بعد ايام قليلة الى مدينته الجامعية «ريكسم» Wrexham، سكن هناك في غرفة لدى عائلة يعمل عائلها في جمع القمامة «زبال»، ورغم رقة حال مثل هذه العائلات، يقول «فإنك كنت تشعر باعتزازهم بما يقومون به».
كان من اهم الامور التي حدثت في تلك الفترة بالنسبة لنا، يقول «تأسيسنا رابطة الطلبة الكويتيين في المملكة المتحدة وايرلندا، وكان لهذا التأسيس اثر كبير على حياتنا الثقافية والاجتماعية، وكل علاقاتنا بعضنا ببعض، ومن اجمل ما استنته الرابطة تقليد اقتبسته من الجامعات البريطانية، وهو اقامة المناظرات Debates، فقلما تجد جامعة بريطانية لا توجد فيها جمعية للمناظرات، وعليه كان في كل اجتماع يتم اختيار موضوع اجتماعي او ثقافي او سياسي، ويتكون فريقان، مؤيد ومعارض.. وفي حقيقة الامر لم يكن المرجو من المناظرة ايجاد فائز وخاسر، بل التمرين على استخدام العقل والمنطق، ومحاولة اقناع الاخرين بالحجة وليس بالعاطفة».
وكانت بعض القضايا التي نوقشت غاية في الاهمية، فقد جرت مناظرة بعنوان الدشداشة لباس غير عملي يجب تحريم لبسها»! وكان النوري معارضاً للتخلص من الدشداشة، واحمد الدعيج مؤيداً للفكرة، ونوقشت قضية اخرى لا تقل اهمية بعنوان «يجب ان تكوّن الكويت اتحاداً فدراليا مع المملكة العربية السعودية»، وهذا من منطلق ان الكويت دولة صغيرة مساحة وسكاناً، لا تستطيع ان تحافظ على استقلالها، وتبدو هذه الفكرة متعارضة بعض الشيء مع الطرح الثوري والقومي آنذاك، والذي كان لا ينظر بارتياح الى الانظمة المحافظة والملكية!
«وتطورت هذه المناظرات»، يقول النوري: «حتى اننا اصبحنا ندعو طلبة بريطانيين من الجامعات التي ندرس فيها للمشاركة فيها، لذلك كانت هذه المناظرات باللغة الانكليزية».
وامتدت المناظرات لتشمل التفاضل بين فرق كرة القدم الكويتية مثل «الوحدة» و«العروبة»، وحتى في ورق اللعب، ثم امتد النشاط الترفيهي الى ليالي السمر، «فها هو عبدالرحمن النجار شاعراً، وغازي الطخيم عازفاً على العود، والبناي مغنياً.. وفي بداية تكوين الرابطة كان رئيسها ابراهيم الشطي لمدة سنتين، ثم تسلم منه رئاسة الرابطة عبدالرحمن العوضي لمدة طويلة، ومن بعده يوسف النصف، ومما يذكر، يضيف النوري «ان الطالبات الكويتيات حرصن على حضور اجتماعات الرابطة، منهن لولوة القطامي، عادلة الساير، فوزية سليمان، فوزية شماس، لولوة الغانم، وهيا الغانم»، هذه الانشطة يقول صاحب المذكرات «هي التي ميزت الرابطة عن نظيرتها في مصر، اتحاد طلبة مصر، وبيروت، اتحاد طلبة بيروت، وقد تكوّن من الثلاثة فيما بعد الاتحاد الوطني لطلبة الكويت».
الولادة والمكان
بحسب تسجيل تواريخ احداث العائلة، وكما كان يفعل والده، يكون من مواليد السابع عشر من اغسطس 1940، وهو بخلاف ما هو مسجل في جواز السفر الذي اعطته اياه الحكومة على انه من مواليد العشرين من مارس 1941 في فريج العاقول، في اقصى الشرق من مدينة الكويت القديمة، شرق المستشفى الاميري باتجاه قصر دسمان.
البيت كان مقابل «حوطة الرزاقة» نسبة الى عائلة العبدالرزاق.
البيت والوالد
يصف السيد انور عبدالله النوري المكان والبيوت المحيطة والعوائل التي سكنت تلك المنطقة، ثم يدخل في وصف بيتهم ذي المساحة الشاسعة وفيه عدة أحواش، حوش يضم ثلاث برك لتجمع المياه العذبة، وآخر للحيوانات، وثالث للطبخ، ويفرد مساحة للحديث عن المرحوم والده عبدالله النوري الذي كان يعمل سكرتيراً للشيخ عبدالله الجابر في إدارة المحاكم، وهو بمنزلة وزارة العدل وعن علاقاته وصفاته.
تحدث عن ذكريات الطفولة، وذلك اليوم الذي خضع فيه لختان الشباب مع أخوية وألزموه بالجلوس تحت برج الهواء «الباكدير» ثم أخذوهم للاستحمام في مياه البحر، وقصة دخول المدرسة الشريفة، وعن أصدقائه والمرحلة الثانوية ومشاركته في المجتمع الكشفي.
انقلاب العراق
بعد مرور سنة من الدراسة هناك، عاد إلى الكويت عام 1958 عن طريق بغداد ليستيقظ في صباح اليوم التالي على أخبار الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملكية وإعلان الجمهورية، وكانت فرحة عمت الكويت في حينه، وعندما عاد من إجازته السنوية للمرة الثانية لم يجد البيت الذي ولد ونشأ فيه، بل اختفى الحي كله الذي احتضن تاريخه وذكرياته، والحدث الأكبر كان هدم السور مع الإبقاء على بوابته، وترافق هذا الحدث مع وفاة الشيخ عبدالله الأحمد الصباح، والذي عرف عنه قوله إنه سيقطع أي يد تمتد إلى هذا السور، المهم قرر إكمال دراسته في كلية العلوم، والتخصص في مجال الكيمياء، والتحق بكلية شمال ويلز، وهناك ما زال يذكر تلك المحاضرة التي دعا إليها هارولد ديلسون، والذي أصبح رئيساً لوزراء بريطانيا في ما بعد، واشتهر بخفة الظل وسرعة البديهة، يعترف بأنه كان من مناصري حزب البعث في تلك الفترة لتوجهاته القومية، وكونه الحزب الأكثر تنظيماً، الذي يقف أمام المد الشيوعي في العراق، وطموحات عبدالكريم قاسم في الزعامة، ارتبط بصداقات مع طلبة عراقيين كان منهم كمال القيسي وغازي أيوب.
بعد التخرج عاد إلى ثانوية الشويخ مدرساً، بعد أن كان قد تركها قبل خمس سنوات، ليكون واحداً من خمسة مدرسين كويتيين فيها.
ملحق ثقافي
بعد مرور سنة تم اختياره ليكون الملحق الثقافي في لندن، والسفير خالد جعفر.
عام 1965 قرر أن يكمل نصف دينه، وهو العازب الوحيد بين أصدقائه، وكان إلحاحاً من صديقه جاسم الخرافي على الزواج إلى أن تم كل شيء بطريقة تقليدية، أم العريس ترى العروس، وترشحها لابنها، وفي حالته أرسلوا له صورتها وكان عليه الانتظار إلى حين عودته إلى الكويت لإتمام الزواج، وكان ذلك عام 1962، ثم يصطحب زوجته إلى لندن، ولم يدم هناك بقاؤه سوى ثلاثة أشهر ليتم استدعاؤه عام 1963 ليتولى منصب وكيل وزارة التربية المساعد للشؤون الفنية.
يومها التقى المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح، وكان يأنس بتوجهاته ويسأل عن أساتذته بالتربية، وعندما ذكر له اسم الأستاذ عبدالمجيد محمد استوقفه المرحوم الشيخ عبدالله السالم وقال اسمه عبدالمجيد بن محمد بن حسين الخنفر، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها اسم الأستاذ والزميل والمربي كاملاً.
الوزارة وأحوالها
وعن وزارة التربية وأحوالها وأوزارها يسرد تفاصيل ذات قيمة ومن موقع المسؤول عن كل ما أحاط بها وبمنصبه ويتوقف عند «مؤسسة المساجد» التي تخطى دورها مسألة دور عبارة بل تحولت إلى مؤسسة توجيهية داخل المجتمع ونالت منها التربية وشخصه مواسم هجومية، خصوصاً على دروس الموسيقى وما يعتبرونه رقصاً، وكذلك الصحافة التي وجدت في التربية مادة خصبة ومثيرة، ويستذكر هجوم مجلة المجتمع على شادي الخليج بسبب مشاركته احتفالات التربية.
نهاية سعيدة
يصل إلى مرحلة الغزو بعد دواوين الاثنين ثم لجوئه إلى قبرص، ودعوته من هناك إلى المشاركة في مؤتمر جدة الشعبي لينتهي به المطاف عند العودة إلى الوطن والعودة إلى الوزارة أي وزارة الصحة عام 1996، ويستمر فيها لمدة سنة تقريباً، وينضم إلى شركة بيت الاستثمار العالمي – غلوبل.
يختم ذكرياته بالقول إنه منذ بداية حياته العملية، كانت الأعمال التي تولاها تأتي إليه دون أن يسعى هو إليها، ليمن الله عليه بحرية الاختيار، فكل عمل عمل فيه ثم تركه كان باختياره.
الديوانيات بين الأمس واليوم
أنا لم أكن من روّاد الديوانيات، والى الآن لم أتردد، الا الملتزم بها، ولا تتجاوز 15 ديوانية، وأعتقد انها وبطريقتها الحالية صارت كثيرة، ففقدت قيمتها. والناس يأتون لمدة 5 دقائق فقط، اما في القديم فكانت تناقش كثيراً من الامور والقضايا، ولها تأثيرها في اتخاذ القرار من دون ان تأخذ الطابع السياسي، وكان الفكر ينطلق من الديوانية، ويكفي فكرة انشاء مدرسة المباركية التي ولدت في الدواوين، وكان لها تأثير في القضايا العامة، كالاقتصاد والتعليم، وكانت بمنزلة بيت ضيافة، وتجري فيها الصفقات التجارية، وملتقى للاهل والاقرباء. والديوانية سمة من سمات المجتمع، أرجو إعطاءها الدور الذي يجب ان تأخذه، ولا تسيّس اكثر من اللازم.
عانى الأمرّين من نواب الواسطة!
على الرغم من قراره عدم الدخول في متاهات العمل الوزاري بعد تجربة وزارة التربية، فإنه رضخ للامر الواقع، واستجاب لدعوة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح عام 1996 بتولي منصب وزير الصحة، وفي ذاكرته «شريط من المعاناة» بكيفية ادارة العمل الوزاري في الكويت والألاعيب السياسية، التي أدمن عليها مجلس الامة.. عانى الامرّين من «نواب الواسطة»، ومن روح العداء بين قياديي الوزارة، ومن الخلل القائم في العلاقة بين الوزراء والنواب، وكأن الوزير مجرد موظف، ولم يدم بقاؤه سوى اشهر، حتى قدم استقالته، وجاء من بعده د. عادل الصبيح.
الشيخ عبدالله.. والمبرة
يقول عن والده الشيخ عبدالله النوري: دور الوالد – رحمه الله – كدور اي اب في القديم، له التأثير الاول في الاسرة، وهو الموجه الوحيد، ودائماً كان يحرص على الالتزام والمحافظة على الشعائر الدينية، مع الشدة والقسوة، لانهما كانتا مطلوبتين في تلك الفترة. بعد وفاة الوالد، اراد بعض الاصدقاء ومحبي المرحوم وتلامذته، وابناؤه ان يخلدوا ذكراه، خاصة بالخيرات والمشاريع التي تقوم بمساعدة المحتاجين، استمرارا على النهج الذي كان يقوم به – رحمه الله – فأُنشئت المبرة عام 1997 وما زالت مستمرة.
قم بكتابة اول تعليق