غيرت المحكمة الدستورية رأيها، وعدلت عن رأي سابق لها يضفي حصانة أعمال السيادة على المراسيم الأميرية، فإذا كان محرماً النظر في الشرعية الدستورية للمراسيم، حسب حكم المحكمة عام 86، فإنها لم تعد كذلك اليوم عندما لا تراعي المراسيم “الإجراء” الواجب اتباعه حسب الدستور، فـ”القيود التي فرضها الدستور على السلطة التنفيذية لا يجوز تجاوزها أو التحلل منها تذرعاً بأنها أعمال سياسية…”، لكن لماذا غيرت المحكمة الدستورية قناعاتها السابقة؟! هذا حق للمحكمة، والأمر الطبيعي في الكويت وحتى في أعرق الدول تاريخياً بالأنظمة الديمقراطية أن تغير المحاكم العليا قناعاتها تبعاً لتغير القضاة والظروف السياسية والاجتماعية التي عبرها ننظر إلى النص القانوني ونفسره، إلا أن محنة الدولة اليوم تتلخص في سؤال ما العمل! كيف يمكن إصلاح الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة بدون تكاليف سياسية باهظة الثمن! خرجت الآن اجتهادات كثيرة، لا يجوز أن يكون مكانها المناسب استعراضات زوايا الصحافة اليومية المتعجلة وإنما مكانها لجان الخبراء القانونيين ودراسات معمقة تنشر في الإعلام، وإذا كان بعض هؤلاء “الخبراء” اجتهدوا فأخطأوا بالأمس، فلا مجال اليوم للخطأ، فقد كان الثمن مكلفاً.
هناك خشية مفهومة من نواب الأغلبية المعارضة في المجلس، بأن ما حدث ليس خطأ اجتهادياً، وإنما كان فعلاً عمدياً من السلطة، دبر بليل، أو ربما استغلت السلطة هذا الخطأ غير المتعمد، حتى تبني عليه واقعاً جديداً ينفي المعارضة أو يخفف من حدتها، كتعطيل المجلس لشهور ممتدة، يمكن خلالها أن تلقي السلطة قنابل صوتية تجس بها نبض الشارع، أو يتم تحضيره لتعديل الدوائر، ويفتت من استفراد الأغلبية بالتشريع والرقابة، يصاحب ذلك ويقويه شعور عارم بالمرارة عند قناعة الكثيرين من الناس، فهؤلاء يرون- وأنا واحد منهم، أن الأغلبية “تفهت” قضايا مصيرية للدولة، وفرضت الجماعات الدينية المتزمتة وصايتها على بقية الأعضاء الذين سايروا أصحاب الفكر المنغلق بالحق وبالباطل خشية غضب المؤمنين، فما لنا والدولة بسخافات من شاكلة اللبس المحتشم، وماذا يحدث في الجزر، حتى تركض الحكومة وتعلن أنها محميات طبيعية حتى “تفتك” من قيل وقال ملالي المجلس، ثم تعديل المادة 79 من الدستور… وفرض تشريعات “دراكونية” تصادر أبسط حريات التعبير والتفكير، وتشريعات طائفية تسحق الآخرين من غير أهل السنة والجماعة… كل هذا كان يمرر ببركات الأغلبية، وتحت بصر حكومة تخشى أن تقول ولو لمرة واحدة كلمة “لا”!
وكان يتم ويمرر بينما التحديات الاقتصادية للدولة تكبر ككرة ثلج، فأسعار البترول تنخفض يوماً بعد يوم، والوضع الاقتصادي في العالم لا يبشر بالخير… فانتهينا الى أن أصبح الحديث عن أن فساد الإدارة – وهذه حقيقة لا يمكن الاختلاف عليها- أداة لابتزاز الدولة وحلبها بمشروعات الهدر وسياسة الرشى التي توافقت عليها الحكومات ومجالس البركة…
لكن يظل في النهاية التأكيد أن “مخاوف” النائب مسلم البراك تجد لها صدى، حين يرى في أحكام المحكمة الدستورية العليا بمصر بإلغاء قانون الانتخابات تعد سابقة هنا في الكويت، فليس مسلم البراك وحده من يقرأ هذه الأحكام بهذا المنظار وحده، فالإعلام الغربي وحتى مواقف دوله ترى أن القضاء في مصر قد يلين أمام سلطان المجلس العسكري، طالعوا، مثلا، افتتاحية مجلة الإيكونومست الاخيرة، وانتبهوا لما حذرت منه وزيرة الخارجية الأميركية المجلس العسكري الحاكم في مصر… لكن رغم ما كتب بحق القضاء المصري يظل له تاريخه المشرف، وهو بالتالي يعد الامتداد التاريخي للقضاء هنا في الكويت.
يبقى أن نقر آخر الأمر بأننا نريد العنب وليس ضرب الناطور، وذلك بتصحيح الخطأ “الإجرائي” وعودة الحياة النيابية بشكل أكمل مما مضى، وهذا ما تعهدت به السلطة فلننتظر بصدر رحب كيف ستحقق تعهدها، فلننتظر ونراقب دون فرض سوء النية.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق