جعل البنّا صفات الطاعة والثقة في القيادة معالم رئيسية لحيوية الجماعة وضمّن الدعوة إجراءات تأديبية
كان مغرماً بالقوة البدنية والنشاط العسكري ومظاهر التسلح كما شهد بصحة ذلك القائد الإخواني محمود عبدالحليم
حين صدر القرار بحل جماعة الإخوان المسلمين في الثامن من ديسمبر عام 1948، في عهد «النقراشي»، وكان ما كان من محنة وبلاء واعتقال وإيذاء، يقول كتيب للإخوان بكل فخر، «ذهب بعض الشباب إلى الإمام الشهيد ليستأذنوه في المقاومة حسب الطاقة».
أما المرشد حسن البنا، يستدرك مؤلف الكتيب، فقد «نهاهم بشدة عن هذا الأمر، وأوضح لهم عاقبته الوخيمة وذكّرهم الإمام الشهيد بالقصة المشهورة عن نبي الله سليمان حين اختصمت امرأتان على طفل وليد.. وادّعت كلتاهما بنوّته.. فحكم بشطره نصفين بينهما، وبينما وافقت المرأة التي لم تلد على قسمته، عزّ ذلك على الأمم الحقيقية، وآلمها قتل فلذة كبدها، فتنازلت عن نصيبها فيه لقاء أن يظل الطفل متمتعاً بحياته».
ويقول جامع قصص الكتيب إن مرشد الإخوان قال واعظاً إننا نمثل نفس الدور مع هؤلاء الحكام. ونحن أحرص منهم على مستقبل هذا الوطن وحرمته. فتحملوا المحنة ومصائبها، وأسلموا أكتفاكم للسعديين- حزب السلطة آنذاك- ليقتلوا ويشردوا كيف شاءوا، حرصاً على مستقبل وطنكم، وإبقاء على وحدته واستقلاله». [مائة موقف من حياة المرشدين لجماعة الإخوان المسلمين، محمد عبدالحليم حامد، القاهرة، 1993، ص36 – 37].
هل يسترشد الإخوان اليوم بمثل هذا الموقف، ويقدروا حجم الدمار الذي ينزل يومياً بحياة المصريين واقتصاد مصر؟ هل يتصور الإخوان، مهما قيل عن «الثورة» و«الانقلاب»، وعن الشرعية وعدم الشرعية، أن ينتصروا على ملايين المصريين الذين ملأوا شوارع مصر، مطالبين برحيل حكم الإخوان، أو أن يهزموا الجيش المصري وقوى الشرطة والأمن، وأن يعيدوا الرئيس د.محمد مرسي إلى الكرسي؟ هل يدركون حجم الدمار الذي نزل وسينزل بمصر، ومصير «الوليد» الذي سيتمزق نصفين بين د.مرسي والفريق السيسي؟ هل محور الحديث والاختلاف الآن، بعد أن فشل الإخوان في الاستفادة من الفرصة التاريخية وأعمتهم «الأخونة» والمطامع، أن يعودوا للسلطة بأي ثمن.. أم أن تسلم مصر من الأذى والدمار؟
كان عام 1948، قبيل اغتيال المرشد البنا بسنة، «عام الإخوان المسلمين»، كما يقول الباحث الأمريكي المعروف د.ريتشارد ميتشل، صاحب أول وأعمق دراسة عن الحركة باسم «الإخوان المسلمون»، ولعل أوثق ترجمة له، تلك التي قام بها أحد الاخوان البارزين، د.محمود أبو السعود، وعلق عليه القيادي «صالح أبو رقيِّق»، ونشر الكتاب، دون أي ذكر للمكان أو اسم دار أو مطبعة، سنة 1979.
في هذه السنة، 1948، أعلنت الحكومة المصرية في يناير أنه قد عُثر على 65 قنبلة وصندوقاً للأسلحة في منطقة منعزلة بجبال المقطم بضواحي القاهرة، وقد صودرت هذه الأسلحة بعد معركة دا رت بين رجال الشرطة وشباب الإخوان المسلمين الذين كانوا يتدربون في الجبل، وقد زعم الشباب أنهم اختزنوا هذه الأسلحة لإرسالها إلى فلسطين، وأنها اشتريت من العرب «البدو» من أجل العرب، وقبض على «السيد فايز»، أحد قادة «الجهاز السري» غير المعروفين للحكومة، ولكن ما لبث أن أُفرج عنه.
وفي 17 فبراير من نفس العام، اتجهت الأنظار لفترة ما نحو صنعاء عاصمة اليمن نتيجة الانقلاب الذي قام به اعضاء «جمعية اليمن الحرة»، والذي ذهب صحيته الإمام المسنّ «يحيى»، وثلاثة من أبنائه، وسرعان ما أذاعت الإشاعات أن «الإخوان المسلمين»، كانت لهم يد في هذا الانقلاب، ولاشك أنهم كانوا على صلة باليمنيين الأحرار، حتى أن البنا كان قد أبرق إلى ولي العهد «سيف الإسلام أحمد» قبل عام، يستحثه على «رفع المستوى الاجتماعي اليمني»، كما أن البنا أيّد فيما بعد الرأي القائل بوجوب تعيين قائد الثورة في الحكومة «كرئيس لمجلس الشورى، وبهذا تؤسس في اليمن حكومة دستورية».
وقد وصف باحث غربي آخر، «هيورث دن» Heyworth Dunne هذا الانقلاب في كتابه «مصر الحديثة»، بأنه محاولة لإقامة «حكومة دستورية قائمة على الشريعة الإسلامية»، كما امتدح الشيخ محمد الغزالي آنذاك «الثورة ضد الكهنوتية في اليمن».
يقول محمود عبدالحليم، مؤرخ الإخوان الذي سنتحدث عنه بعد قليل حول علاقة الإخوان باليمن: «مبلغ علمي أن الإخوان منذ عرفتهم كانوا يتمنون أن يتخلص اليمن من حكم الأئمة.. وأستطيع أن أقرر أن فكرة إعداد الشعب اليمني للثورة قد نبتت في المركز العام- للإخوان بالقاهرة- أما تفاصيلها وخطوطها فلا أعتقد أن المركز العام قد تدخل في رسمها.. وأما أثرها على الإخوان فقد كانوا يتمنون أن تنجح الثورة ليكون للإسلام في هذا العالم دولة» [الإخوان المسلمون، ص402] ومن حوادث العام 1948 الكبرى، في 22 مارس، تورط الاخوان في اغتيال القاضي «أحمد الخازندار بك»، أثناء ذهابه إلى مقر عمله، وكان اغتياله، يضيف «ميتشل»، نتيجة حكمه على أحد الإخوان بالسجن لمهاجمته الجنود البريطانيين في أحد منتديات الاسكندرية، وقد ألقي القبض على القاتلين في وقت قصير، وكانا عضوين في «الجهاز السري» للإخوان، وفي 22 نوفمبر 1948 حكم عليهما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وقد تم استجواب المرشد البنا ولكن أُفرج عنه لعدم وجود أدلة لإدانته، ويروى المقربون منه، يقول الباحث الأمريكي، أنه منذ ذاك الحين، «بدأ يستنكر الحادث ويبدي مخاوفه من أن اعضاء الجهاز السري قد بدأوا يتحررون من رقابته عليهم».
ويقول القيادي الإخواني صالح الرقيق: «أزعج هذا الحادث الأستاذ البنا كل الإزعاج»، وقد عبر عنه المرشد قائلاً إن «هذه الرصاصات، إنما اطلقت في صدري»، ويضيف الرقيق ان الحادث دبّره «عبدالرحمن السندي» بدون اذن من المرشد، وبسبب هذا الحادث وما تلاه من حوادث قام بها السند منفردا بدا الأستاذ البنا في العزم على تنحيته من رئاسة النظام الخاص لولا انه عاجلته الاحداث».
زار المرشد البنا ذات مرة محافظة سوهاج وبعد انتهاء المؤتمر دُعي الى مائدة، حيث اقترح عليه احد الاخوان وضع ضوابط للذين يريدون الانتساب لجماعة الاخوان.
فابتسم «الامام الشهيد»، كما جاء في كتيب الاخوان «مائة موقف من حياة المرشدين، وقال: «يا فلان، هل تريدون مني ما لم يرده الله من انبيائه ورسله وهم صفوة خلقه اننا دعوة لكل الناس، يتربى فيها كل من يريد ان يخدم الاسلام مهما كانت مكانته وثقافته، وكل ميسر لما خلق له، ومن يدري فلعل هذه الدعوى تواجه محنا عاتية تعدون فيها الرجال على الأصابع» (ص 38 – 39).
ويقول معد الكتيب: «طلب كثير من الناس الغيورين من الامام الشهيد ان يؤلف كتبا يودعها ما عنده من معارف بهرت عقول كبار العلماء، فكان رده عليهم: انا لا أؤلف كتبا.. وانما مهمتي ان أؤلف رجالا، اقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه.. فالرجل منهم كتاب حي ينتقل الى الناس، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم، ويبثهم كل ما في قلبه ونفسه وعقله، ويؤلف منهم رجالا». (44).
غير ان هذا الجواب كان للاستهلاك العام كما تؤكد الدلائل. فجماعة الإخوان حزب عقائدي ذو تركيبة هرمية، لكل درجة من العضوية والقيادة شروط ومستلزمات، وهي ليست «دعوة لكل الناس» كما قال البنا، الا في مجال التبشير العام.. لا عضوية الحركة! وقد جعل البنا منذ البداية الباكرة للحركة من صفات الطاعة والثقة في القيادة معالم رئيسية لحيوية الجماعة وضمّن الدعوة اجراءات تأديبية خاصة ومع اتساع الحركة بات من المستحيل على البنا ان يباشر تربية الاعضاء بنفسه.. وهكذا في شتاء عام 1936 – 1937 بدأ البنا بتكوين «نظام الكتائب» لامتصاص طاقات الاعضاء الجسدية، وكان جوهر ما يتطلب ان يلتزم به عضو الكتائب «العمل والطاعة والصمت»، وكان هدف المرشد من اعداد هذه الكتائب اعداد قادة حركيين لتوسيع العضوية، وقد اهتم الاخوان على الدوام بالتربية البدنية واعداد الكشافة، فصار للاخوان فرق رياضية وفرق كشافة وجوالة، للتغلغل داخل الحركة الكشفية المصرية والاستفادة من تسهيلاتها ومنها ما كان مكلفاً للحركة كـ «الحصول على الملابس بأسعار مخفضة والاعانات المالية».
كان الشيخ حسن البنا، كما يبين معاصروه من الاخوان، مغرماً بالقوة البدنية والنشاط العسكري ومظاهر التسلح. ومن يشهد بصحة هذا ويوثقه القائد الاخواني المعروف محمود عبدالحليم (1999-1917) عضو الهيئة التأسيسية لجماعة الاخوان وأول مؤرخ «رسمي» للجماعة، وصاحب المجلدات الثلاثة من كتاب «الاخوان المسلمون»: احداث صنعت التاريخ «رؤية من الداخل»، دار الدعوة بالاسكندرية، 1983 وقد اقتبسنا منذ قليل كلامه عن دور الاخوان في انقلاب اليمن الفاشل. يقول المؤرخ محمود في الجزء الأول، ص 162-161 مايلي:
«يخيل الى ان الاستاذ المرشد رسم في ذهنه صورة لوسائل ابراز حقيقة الدعوة الاسلامية، فوجد ان هذه الصورة لا تكتمل الا بوجود مظهر للقوة البدنية.. كما انه اراد في دار شارع الناصرية أن يعبر عن معنى الجهاد في الفكرة الاسلامية فكلف نجاراً – بارشاد من احد العسكريين – بصناعة انموذج لبندقية، وكان هذا الأخ العسكري يدربنا في فناء الدار على استعمال البندقية في مختلف الظروف والاوضاع بهذا النموذج الخشبي».. ويضيف المؤرخ فيقول: «والصورة التي رسمها الاستاذ في ذهنه منذ قام بدعوته في الاسماعيلية عن هذا الجانب من نشاط الدعوة لم تكن هي فريق الرحلات او فريق الجوالة، وانما كان فريقاً عسكريا يحقق فكرة الجهاد في الاسلام، الا ان الرجل لم يكن يؤمن بالطفرة، بل كان يؤمن بالتطور، فتدرج بالصورة التي في خاطره تدرج الأم بمولودها». ويختتم حديثه في هذا المجال قائلا: «كان الاستاذ يتحرق شوقاً الى ابراز النشاط العسكري لتجلية فكرة الجهاد»، ولكنه رأى الدعوة ما زالت في مهدها، ولم تتجاوز في طورها الجديد مرحلة الحبو، ورأى الحكومات المصرية ومن ورائها الانجليز لابد أنهم متربصون في يوم ما بالدعوة الدوائر لانها عدوهم الأساسي؛ اذن فلابد من ان نتحاشى الدعوة في هذا الطور كل ما يعتبرونه في عرفهم خروجاً على القانون.. لهذا لجأ في ابراز الطور الجديد في خاطره الى مظهر ألبسه لباس القانون».
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق