وضع اليونانيون كل مشاكلهم الاقتصادية والمعيشية جانبا ليهتموا بالشيء الذي اشتهروا به وازدهر على ارضهم وصار اهم ما في تراثهم.. أي الفلسفة! فقد ظهر ارسطو وافلاطون وسقراط مجددا في أثينا، رغم الازمة الاقتصادية الخانقة، من خلال مؤتمر عالمي للفلسفة، أقيم في المواقع التي كان يرتادها هؤلاء الفلاسفة بالتحديد. وينظم هذا المؤتمر، تقول «الحياة»، 2013/8/12، «الاتحاد الدولي لجمعيات الفلسفة» كل خمس سنوات في مدينة مختلفة، وهو يقام للمرة الاولى، للغرابة، في اليونان! امتدح كثيرون الفلسفة حيث تسمى في بعض اللغات بالحكمة. ولكن سخر منها كذلك كثيرون. الفلسفة، قال احدهم متهكما، «نظام للتواصل لا يفهم خلاله المتحدث ما يقول والمستمع ما يسمع». وقال آخر: «الفلسفة درب يتفرع الى دروب، تقود الانسان من اللامكان الى اللا شيء!» وقال ثالث ان «الفيلسوف انسان يقرأ المزيد والمزيد عن القليل والاقل، حتى نراه في النهاية يفهم كل شيء.. عن لا شيء»!
لم يؤثر كل هذا في عشاق الفلسفة وأساتذتها الذين اجتمعوا في «اثينا» حاضرة بلاد الاغريق لتقديم فروض الطاعة والولاء للفلسفة في منبتها.
يقول البروفيسور «تو ويمينغ»، «انا متأثر جدا ليس فقط بالبيئة المحيطة، بل ايضا بالناس واهتمامهم بهذا المؤتمر، في مرحلة اقتصادية صعبة جدا». وأضاف: البعض يرى ان اساس الفلسفة فكرة يونانية غربية بحتة تقوم على «معرفة الذات». فهذه الفكرة أساسية لكل انسان. اما أستاذة الفلسفة المقارنة القادمة من روسيا «ستيبا نيانتس» فقالت يشكل عقد المؤتمر هنا بالنسبة لليونانيين «دعما معنويا يذكرهم بتاريخ بلادهم الخاص».
كانت الفلسفة منذ تبلورت فرعاً أساسياً من فروع الثقافة والفكر. لقد عرضت الفلسفة الكثير من الافكار والمهام الجليلة عبر تاريخها الطويل، وتصدت لأعمق الاسئلة البشرية، ومن بين ابرز هذه المهام تشجيع الاستقلال الفكري للانسان. وفي اليونان نفسها واماكن اخرى، كثيرا ما بدأ الفلاسفة خطرين في نظر اقرانهم من اثر دفاعهم عن الاستقلال الفكري، وممارستهم له، وترتب على ذلك تعرضهم للاضطهاد. ولقد اخترع الاغريق الفلسفة مثلما اخترعوا مظاهر حضارية اخرى، كالالعاب الاولمبية وهكذا جمعت اليونان بين ارقى درجات الفكر واللهو معا! وكان مصير فلسفتها ان تكتسحها في العصور الحديثة الفلسفات الالمانية، حاملة نذر الدور الذي ستلعبه المانيا كذلك اليوم في اقتصاد اليونان وازمة ديونها!
لقد تعرضت حرية الفكر الى الهجوم كما الفلسفة عموما. وتستند الحجة التي تساق ضد مسألة الاستقلال الفكري على الزعم بأن هذه الفكرة ستؤدي الى الفوضى، والى تحطيم النظام والقانون. وعلى عكس ذلك، فلقد اكد سقراط ان المجتمع الذي يسوده العقل، سيتميز بالاستقرار والعدالة اكثر من اي مجتمع آخر. «لقد كان سقراط ابن حجار، وكانت أمه تمارس مهنة «القابلة» اي توليد النساء. وتجاهل سقراط مهنة قطع الحجارة التي تدرب عليها واتخذ حرفة امه بمعنى ما. وشبه نفسه بالقابلة في عالم الفكر، لانه يساعد الآخرين على انجاب الافكار الجديدة. وكان بالاستطاعة مقابلة سقراط يوميا تقريبا في الميدان العام المزدحم في اثينا القديمة. وعندما كان سقراط يرى العظماء وأصحاب النفوذ والمثقفين والموهوبين والعواجيز والشباب يمرون امامه، كان يسألهم عما يرغبون: الثراء أم السلطان أم السعادة أم المعرفة؟ وهل يعد الخير مصدرا للمتعة والشر مصدرا للألم؟ وهل حقا القوة هي التي تصنع الحق؟ وما معنى الحب؟ وهل يتعين على الاطفال اطاعة آبائهم دائماً؟ ومن يحق لهم حكم المدينة: الساسة، ام ابناء الذوات، أم الجنود، ام المثقفون والفنانون؟ (الفلسفة وقضايا العصر، جـ1، تحرير جون بورر، القاهرة، 1990، ص19 – 20).
تراوحت مواضيع المؤتمر بين فلسفة السياسة واللغة والعلوم والديانة والاخلاقيات وعلم الفلك والتفسيرات الحديثة لكتابات أرسطو وديكارت وهايدغر وكانط ونيتشة وافلاطون وروسو وسقراط واسبينوزا.
علماء الآثار لا يزالون يستخرجون الفلسفة من ارض اليونان! «مدرسة ارسطو» التي أعيد اكتشافها عام 1996، كانت بين ثلاث مدارس كان يتلقى فيها شباب المدينة تدريبا جسديا وفكريا قبل 2500 سنة.
وقد هجرت المدرسة في القرن الرابع بعد الميلاد، وأعيد اكتشافها مجددا في وسط أثينا، خلال حفريات لاقامة متحف الفن الحديث. ولا يزال علماء الآثار، – تقول «الحياة» -، يجرون الابحاث في الموقع الذي يضم بقايا المدرسة ومدرسة المصارعة، وهو لم يفتح امام الجمهور بعد. وعلى بعد كيلو مترين من المدينة، تقع اكاديمية افلاطون التي يقال انها اول جامعة في العالم، وقد أسست في القرن الرابع قبل الميلاد، واقفلها الامبراطور البيزنطي جوستنيان.
تمر البشرية اليوم بمرحلة معقدة جدا. وقد كان النقاش والجدل يدور لقرون حول القضايا السياسية والمفاهيم الفكرية، كما كان يفعل اليونان والاوروبيون والصينيون والعرب. واليوم الكرة الارضية نفسها في خطر. وقد نتحكم او نتصالح مع أي نظام سياسي مزعج على الصعيد العالمي، ولكن ماذا نفعل بكوارث من قبيل ارتفاع حرارة الجو والاحتباس الحراري وانقراض النباتات والحيوانات والاسماك والطيور، وذوبان جليد القطبين وارتفاع سطح مياه المحيطات وتفشي الامراض الفيروسية التي لا علاج لها؟
ولقد انقسمت العقول بين الدين والعلم وخليط من هذا وذاك. والبشرية اليوم، من خلال مشاكل كبرى، كالتلوث البيئي والارهاب والتطهير العرقي والانفجار السكاني والتصحر ودمار الغابات وانهيار الايديولوجيات، تكاد تجد نفسها في نقطة الصفر. وفيما يغرق الآلاف يوميا في البحر محاولين الوصول الى اوروبا واستراليا وغيرها، تطغى الاصولية على الاديان، والاستغلال التجاري والعسكري على العلم، والنفعية البحتة على الاخلاق، هل الفلسفة قادرة على «انقاذ» الدين والعلم والاخلاق والعقل؟
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق