
كان العرب منقسمين حول ما ينبغي عمله عام 1990 بعد غزو طاغية العراق لجاره، وانخدع الكثيرون آنذاك بشعار استرداد فلسطين واحلام «الوحدة الاندماجية»، وانقسموا ثانية حول اهداف التدخل الامريكي عام 2003 وجدواه، وهاهم اليوم ينقسمون في توجيه الضربة الامريكية الحاسمة للنظام السوري بعد المذبحة الكيماوية.
وبالطبع ليس هذا وقت الحساب واللوم، فالمأساة السورية قد بلغت اوجها في الداخل والخارج، وفي بعض الحالات صار الحي يحسد الميت، والمقيم ممزقاً بين ان يموت تحت ركام منزله أو يعاني ذل وهوان التشرد كل يوم. ولا احد من جانب ثالث يعرف الى اين سينتهي هذا الجدل الدولي حول الطرف المسؤول عن استخدام السلاح المدمر الذي قتل مئات الاطفال في لحظات، ومتى وكيف ينبغي ان ينال العقاب الرادع.
ومن المحزن حقاً ان يبدو المشهد السوري بعد كل جرائم النظام بحق الشعب السوري ومدن سورية وتراثها، والقتلى الذين بلغ عددهم اكثر من مائة الف والمشردين الذين فاق عددهم عدة ملايين، اقول ان يبدو المشهد وكان محور كل كوارث سورية هذا السلاح الكيميائي، الذي هو في الواقع جزء بسيط نسبياً من مصائب وويلات سورية منذ انفجار الثورة.
ان الولايات المتحدة بدورها منقسمة هذه المرة بين رافض لتكرار «تجربة العراق» التي لعب النظام السوري كما هو معروف دوراً اساسياً في تدميرها، ومؤيد لضربة محدودة تشل النظام، دون ان تورط امريكا في تلك الخسائر الجسيمة في الجند والمال.
ولكن هل حكومة الرئيس الامريكي درست ابعاد ونتائج هذه الضربة؟ وهل ستحطم نظام الرئيس بشار ام الدولة السورية؟ لا توجد مصالح او مؤامرة او «مخططات» في الموقف العربي الآن تجاه سورية. وحتى لو كان للغرب أي نوايا شريرة فالانقسامات داخل المعارضة السورية وبعض قواها كجبهة النصرة قد عزّزتها!
يقول الكاتب حازم الامين في صحيفة الحياة: هناك ثلاثة مستويات كشفتها المناقشات الغربية للمسألة السورية: الاسلاميون الارهابيون، شكل نظام الحكم في اعقاب سقوط «الأسد»، الموقف من عملية السلام العربية – الاسرائيلية. ويضيف الامين ان «شكوك الرأي العام الغربي كما كشفتها المناقشات تتعلق في معظمها بهذه العناوين التي لم تتعامل معها المعارضة السورية، وهي ان فعلت، فان تعاملها قد اثار مزيداً من الشكوك».
هوية المعارضة السورية، يقول، شديدة التعقيد بالنسبة للرأي العام الغربي، فالغرب يرى في هذه الجماعات الجهادية التكفيرية «احتمالات تدميرية لا تقل فتكاً عن الميول البعثية في القتل». هل المعارضة السورية مسوولة بشكل ما عن جرائم «جهبة النصرة»؟ يقول الامين: «لم تسأل الثورة السورية نفسها من اين قدم هؤلاء إلى سورية، ولماذا قدموا. ومقولة ان الاولوية لقتال النظام كانت نوعاً من الهرب من واقع جلي وواضح. لقد قدم معظمهم عبر تركيا، والتحالف مع انقرة منع طرح السؤال، وقاموا بممارسات تستهدف جوهر الثورة وهويتها المدنية، ولم يُواجهوا. سيطروا على مدينة الرقة، واقاموا معسكرات «مهاجرين» غير سوريين، وتجنبت الثورة مواجهتهم، اختطفوا الاب باولو وصحافيين غربيين، وبدت المعارضة عاجزة تماماً حيالهم». [2013/9/8ّّ].
وما يثير الاستغراب والاسئلة كذلك، ان نظام البعث السوري ونظام الرئيس بشار بالذات كان قد استخدم هؤلاء المجاهدين التكفيريين، ربما بالتنسيق مع الحرس الثوري الايراني وجهات اخرى، لعرقلة النظام الجديد في العراق بعد 2003، والانتقام من كل من يتعامل مع الأمريكان من العراقيين: «ماذا كان البعث السوري يريد من العراق بدعمه الارهاب وتسهيل تدريب الارهابيين، وتحديداً المنتمين الى القاعدة، بتنسيق مع البعثيين العراقيين، وتسللهم الى العراق كي يفجروا ويقتلوا ويخربوا الوضع الامني والسياسي»؟. الكاتب والسياسي العراقي كامران قره داغي يجيب عن هذا السؤال الذي يطرحه في نفس الصحيفة، ان المخطط البعثي السوري نجح في تقسيم العراق طائفياً وحتى قومياً. الرئيس طالباني قال في لقاء له مع الاسد: «قلوبنا مجروحة بسبب الاعمال الارهابية ونعتقد ان الارهابيين قدموا من سورية وعندنا ادلة وبراهين، طالباني سلّم الاسد قائمة باسماء القياديين المعروفين في البعث العراقي، ومن القادة العسكريين الفارين الى سورية مع عناوينهم، اضافة الى مراكز تدريب الارهابيين فيها، ماذا كان رد الاسد؟ «والله لا علم لي بذلك»، ثم اضاف، مبتسماً بالطبع، ان التسلل يمكن ان يجري بسبب الفساد، «يكفي ان تدفع 500 دولار»! ومع انه لم يكن على علم بوجود القياديين البعثيين العراقيين في سورية، لكنه بعد قليل قال لطالبائي انهم على وشك الانشقاق – بين عزة الدوري ومحمد يونس الاحمد – مضيفاً: «وفي هذه فائدة لنا ولكم».
كان الارهابيون الذين انحدروا على «اللاذقية» في سورية من كل حدب وصوب يتدربون ويعبأون بالمئات هناك، ثم يرسلون الى مدن العراق واسواقه وجوامعه ليقوموا بعملياتهم المروعة.
وكان بين هؤلاء كما نذكر جيدا، مئات من شباب الدول الخليجية وتونس وليبيا وغيرهم ممن كانت الاجهزة السورية تعدهم للموت في العراق وتحصد ارواح آلاف العراقيين معهم.
ثاني ما يخيف الغرب، يقول حازم الامين، الى جانب خطر ارهاب الاسلاميين هو ضعف المعارضة وفيما اذا كانت قادرة حقا على ادارة الدولة السورية في حالة اسقاط النظام، ويضيف: «لم تعد الوثيقة التي اصدرتها جماعة الاخوان المسلمين السوريين لتصورها لشكل النظام التعددي بعد سقوط الاسد كافية لطمأنة احد.
تجربة «الاخوان» في مصر اطاحت بهذه الوثيقة، واندراج الاخوان السوريين في سياق «اخواني» غير سوري – وقد رأينا نحن الخليجيين نماذج له كذلك – احدث ريبة في نوايا الجماعة».
فالغموض اذن يلف فعلا شكل نظام الحكم بعد سقوط الاسد، وعلى المعارضة السورية ان تعالج هذه المخاوف بجملة اجراءات وبصراحة اكبر. وكما كان الامر مع الرئيس العراقي المقبور، حيث كان هاجس الامريكان شباب العرب الانتحاريين المسلمين لا الرئيس صدام، فإن جبهة النصرة وبقية المجموعات الجهادية والطابع الديني الاصولي لكثيرين في المعارضة السورية تجعل الغربيين اقل حماسا لاسقاط رئيس يبدو في الظاهر اقرب الى العلمانية والنمط الغربي من الجهاديين الذين باتوا يهيمنون على مساحة واسعة من صورة المعارضة.. مع الأسف الشديد.
ولقد رجعت الى مقال كان قد كتبه الصحافي الامريكي المعروف توماس فريدمان، في سبتمبر 2002، قبل اسقاط النظام العراقي بستة اشهر، قال فيه: «لا تصدقوا استطلاعات الرأي التي تقول ان اغلب الامريكيين يساندون ضربة عسكرية للعراق، ذلك غير صحيح. ومن الخطأ ايضا الاعتقاد بأن اغلب الامريكيين يعارضون بقوة فكرة الاطاحة بصدام حسين، بل الصحيح هو ان الحيرة تستبد بأغلبية الامريكيين حيال هذا الموضوع». فالسؤال الذي تردد باستمرار يقول: «كيف يمكن لنا فجأة ان نفكر في شن حرب على صدام حسين؟ صحيح انه يملك اسلحة فتاكة، الا انه لم يسبق له ان شكَّل تهديدا مباشرا لنا، وفي حال انه فعل أليس بالامكان ان نمحقه من الوجود؟ ان ما يخيفنا فعلا هو اسامة بن لادن وبقية الارهابيين الذين لايزالون طلقاء». ويضيف الكاتب الامريكي محللا مخاوف الامريكيين عشية الاطاحة بنظام بغداد: «كان صدام دائما قاتلا وليس انتحاريا، وبالفعل لقد أمضى حياته كلها يطور فن حماية نفسه وبقائه على قيد الحياة، بحكم ان حبه للحياة يفوق اكثر من كرهه لها. ان ما يخيف الامريكيين فعلا ليس اولئك القابلين للردع مثل صدام، بل اولئك الذين لا يمكن احتواؤهم مثل هؤلاء الشباب العرب المسلمين من نوعية منفذي اعتداءات 2001/9/11، والذين مازالوا يتربصون بنا. كما ان الامريكيين مستعدون لدفع اي ثمن تقريبا في سبيل القضاء على خطر مثل هؤلاء الذين تفوق كراهيتهم لنا حبهم لانفسهم وللحياة، مما يجعلهم غير قابلين للردع».
ودار حول طريقة التصرف مع صدام حسين، وحجم الردع المطلوب حوار مماثل لما يجري اليوم حول سورية، مهما اختلفت بعض جوانب الحالتين. يقول فريدمان في المقال نفسه: «في الوقت الذي يعلن فيه اغلب الاستراتيجيين ان الدافع وراء غزو العراق، والدافع الوحيد ربما، هو التخلص من اسلحة الدمار الشامل، وليس تغيير نظام الحكم او اقامة نظام ديموقراطي، وهذا رأي اختلف معه تماما، لاعتقادي بأن مقولة نية صدام، بل وقدرته على استخدام اسلحة الدمار الشامل فيها شيء من المبالغة، ما يخيفني حقا، هو امكانية تركر هجوم كالذي حدث يوم 9/11، سواء على مجمع تجاري او على مطار او وسط اي مدينة، يشنه شباب مسلمون غاضبون مشحونون بأيديولوجيا زائفة ذات قناع ديني، تمت تعبئتهم بها في أحد مساجد السعودية أو مصر أو باكستان. كما أني أرى أن الطريقة الوحيدة التي تمكننا من مواجهة خطر كهذا تتمثل في تغيير الظروف التي يعيش فيها مثل هؤلاء، تحديداً كل الدول العربية والإسلامية التي فشلت في مواكبة الحداثة وأصبحت تشكل أرضية خصبة لإنتاج مثل هؤلاء غير قابلين للردع». [جمع الصحافي مقالاته الهامة في كتاب بعنوان «العالم في عصر الإرهاب»، ترجمة محمد طعم، منشورات الجمل، 2003، ص237 – 238].
ومثل هذا الرأي ينقلنا اليوم، حيث المواجهة مع النظام السوري، إلى الجدل القائم في الولايات المتحدة حول العلاقة بين ضرب إمكانيات القوة في النظام السوري من جانب، ومصالح الأمن القومي الأمريكي. فمن الذين تحدثوا بهذا الخصوص «برت ستيفانس» في صحيفة «وول ستريت جورنال»، ونشرت ترجمة المقال صحيفة الجريدة الكويتية يوم 2013/9/6، وقد أورد الكاتب بعض مواقف أعضاء مجلس الشيوخ وراح يناقشها مفنداً، وداعياً في النهاية إلى أن الاعتداءات المباشرة على الأراضي الأمريكية لا تشكل وحدها تهديداً للأمن القومي، ولا تحتم وحدها خطوات حاسمة: ذكر السيناتور «راند بول»، أن ما من رابط واضح بين الحرب في سورية وأمن الولايات المتحدة القومي، وأعلن السيناتور «مايك لي» قائلاً، «لا أعتقد أن الوضع في سورية يشكل خطراً وشيكاً يهدد الأمن القومي الأمريكي، لذلك لا أدعم التدخل العسكري»، وقال النائب «جاستان أماش»، إنه «عندما لا تتعرض الولايات المتحدة لهجوم، فعلى الشعب الأمريكي، من خلال ممثليه، تحديد ما إذا كان من الضروري أن نخوض حرباً».
ويعود الكاتب «ستيفانس»، إلى بعض مواقف رجال الكونغرس الخاطئة تاريخياً، عشية الاكتساح النازي لأوروبا فيقول إنه في شهر ابريل عام 1939، وقف السيناتور «روبرت تافت» من اوهايو (1889 – 1953)، ابن الرئيس الأمريكي تافت، ورجل كان يتمتع بنزاهة لا غبار عليها ومبادئ عالية وذكاء حاد، إلا أن أحكامه كانت سيئة دوماً. ففي شهر ابريل عام 1939، ذكر هذا السيناتور، الذي يُعرف بالسيد الجمهوري، «أن كل عضو في الحكومة يضخم الوضع الخارجي، محاولا إثارة الضغائن تجاه هذا البلد أو ذاك، وإبعاد الناس عن التفكير في مشاكلهم في الداخل، مهما كلف ذلك من ثمن». وقد عنى «تأفت» بعبارة «هذا البلد أو ذاك»، ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. وما هي إلا أربعة أشهر حتى تعرضت بولندا للغزو.
ويورد الكاتب نماذج من مواقف ما بعد الحرب العالمية الثانية للسيناتور «تافت» نفسه. فقد انضم الجمهوريون إلى الديموقراطيين بغية دعم عقيدة ترومان تأسيس حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وكذلك لوضع خطة مارشال. لكن السيناتور «روبرت تافت» سار عكس التيار، فعارض تأسيس حلف شمال الأطلسي، معتبراً إياه تهديداً للسيادة الأمريكية، واستفزازاً لروسيا، وعبئاً غير ضروري على الميزانية الفيدرالية.
إن الأموال التي تصرفها الولايات المتحدة لتثبيت الاستقرار الدولي، كما يراها «ستيفانس»، ليست أموالا مهدرة، فـ«يجب أن يعي الجمهوريون أيضا أن الاستثمار في النظام العالمي يردع المعتدين الأكثر خطورة في المستقبل ويؤسس عالماً ملائماً لتجارة الولايات المتحدة وأمنها وقيمها، ومن الطرق الفاعلة القليلة الكلفة لتحقيق ذلك تلقين مجرم تجاهل كل تحذيرات الولايات المتحدة والهيئات المتحضرة درساً قاسياً».
إن الدول الخليجية والأردن وربما دول عربية أخرى تؤيد اليوم الضربة التي قد توجهها الولايات المتحدة عسكرياً ضد سورية، بينما تعارضها مصر والعراق وربما دول عربية أخرى.. ولكل دولة أكثر من سبب. وهكذا كان الأمر عام 2001 عندما طُرحت فكرة توجيه ضربة إلى نظام صدام حسين، وكتب فريدمان يحلل مخاوف الدول المجاورة للعراق في 2011/12/19 يقول:
«تركيا مثلاً، التي استفادت كثيراً من بيع النفط العراقي المهرب، تخشى من أن تؤدي الحرب على العراق إلى نشوء دولة خاصة بالأكراد في شمال العراق، مما يُعقد مشكلتها مع الأكراد في تركيا. أو السعودية المترددة في الدخول في عمل من شأنه أن يزيح صدام، الذي كان يشكل توازناً سنياً مقابل إيران الشيعية، ومتخوفة من قيام نظام ذي أغلبية شيعية في العراق، من شأنه أن يؤثر في الأقلية الشيعية في شمال شرق المملكة. أما الأردن، المخترقة بشكل كامل من قبل المخابرات العراقية، تخشى هي بدورها من أن تؤدي الحرب على العراق إلى التأثير سلباً على استقرارها. أما مصر فهي لا ترغب بدورها في رؤية نظام جيد في بغداد، بشكل يسمح بإعادة العراق إلى الجامعة العربية، وبالتالي مزاحمتها على الزعامة الإقليمية. وأخيرا سورية، التي من المستحيل أن تسمح بشن حرب على العراق، التي إن نجحت، ستجعل منها الدولة رقم اثنين على لائحة الدول المستهدفة» [ص99].
كم هو معقد.. هذا العالم العربي!
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق