
توفي الأديب الكبير د. طه حسين يوم 28 اكتوبر 1973.. وتستعد الاوساط الثقافية في القاهرة للاحتفال بالذكرى الاربعين لرحيل «عميد الادب العربي»، احد رواد العقلانية والاستنارة في التاريخ والفكر العربي الحديث، وجاء في «الشرق الاوسط» ان الاحتفالية بمكتبة الاسكندرية «ستشهد مفاجآت عديدة ابرزها عرض نسخة من كتاب لطه حسين لم يسبق نشره عن البيان في القرآن الكريم، وكذلك عرض مجموعة نادرة من الاوراق الشخصية الخاصة به، بالاضافة للمراسلات التي جرت بينه وبين عدد من المفكرين، وسيصاحب ذلك معرض لصوره ومعرض لمؤلفاته». وجاء في الصحيفة نفسها «ان السيدة مها عون، حفيدة طه حسين، فتحت لأول مرة خزانة خاصة به تتضمن مجموعة من وثائقه». (2013/9/13).
امتد العمر بعميد الأدب العربي «طه حسين علي سلامة»، وهذا اسمه الرباعي، اربعة وثمانين عاما، وقد اصيب بالجدري وهو في سن الثالثة فكف بصره، وقد درس في الازهر ما بين 1908-1902، ثم بالجامعة المصرية، وسافر في بعثة الى باريس حيث تخرج في السوربون عام 1918. وقد عُين محاضرا في كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم عميدا لتلك الكلية، فوزيرا للمعارف، حيث تمكن من تقديم التعليم الثانوي والفني مجانا، كتب د.طه حسين عشرات الكتب في الادب والتاريخ، ترجمت اعماله الى عدة لغات، وكان آخر عهده بالعمل الحكومي عام 1952.
من نوادره المذكورة في كتاب «سير ونوادر ظرفاء وعظماء القرن العشرين»، السيد صديق عبدالفتاح، ان مجلة «الاثنين والدنيا» سألت عدة ادباء عام 1951، عما يفضل الواحد منهم ان يكونه «لو لم يكن آدميا»! فكانت اجابة د.طه حسين، غير القابلة للتصديق، انه اجاب: «لو لم اكن آدمياً، ما تمنيت شيئا اكونه – بطبيعة وضعي في الحياة والخليقة – الا ان اكون فأرا.. ولعلك تعجب من هذا.. ولكن يزول عجبك عندما تعلم انني اربط هذا الاختيار باختيار آخر.. وهو المكان الذي اعيش فيه.. ولن اعيش الا في مكتبة ضخمة.. عامرة بشتى انواع الكتب والمؤلفات والمجلدات.. فأظل «التهمها» واتغذى عليها عقلا وجسما، وقلبا.. واستمد حياتي من بقائي معها، وبقائها حولي.. فأنا اشك في انني استطيع ان اعيش بدون قراءة واطلاع كائنا ما كنت.. فإن ضمنت لي تحقيق هاتين الامنيتين.. فلن اتراجع.. ولن اتقهقر». (ص 163).
لا تحترم حياتنا الثقافية منذ قديم الخصم الذي يعاني من عيب جسدي او عاهة، سواء في الحواس او النطق او المشي او الهيئة، وكان بعض خصوم طه حسين يصفه بانه «اعمى البصر والبصيرة»، وقد عاش د.طه حسين مستهدفا للحملات الشرسة، كما يقول الكاتب المصري «وديع فلسطين» عنه، وكان د.طه حسين يؤثر مواجهتها بالصبر والصمت: «كانت الحملة الاولى الضارية هي التي صاحبت ظهور كتابه «في الشعر الجاهلي»، ثم تحمل «المدفعيات الثقيلة»، من العلامة محمود محمد شاكر بسبب آراء طه حسين حول المتنبي، ولم يسلم من حملات زكي مبارك ومن حملات اسماعيل مظهر»، ويضيف وديع فلسطين: ان عداء «زكي مبارك» لطه حسين كان ينبع من اعتقاده بان د.طه حسين قد وقف في سبيل عمله استاذا في الجامعة برغم درجات الدكتوراه التي كان يحملها مبارك من القاهرة وباريس، ولما كان د.طه حسين فاقد البصر، اعتاد زكي مبارك ان يقول عنه «انه أُميّ لا يقرأ ولا يكتب»، لانه يستعين بغيره في القراءة والكتابة! بل ان زكي مبارك كتب في ديوانه «ألحان الخلود»، يقول «لو جاع اطفالي لشويت طه حسين واطعمتهم من لحمه، ان جاز ان اقدم الى اطفالي لحوم الكلاب» (وديع فلسطين يتحدث عن اعلام عصره، ج1، دمشق، 2003، ص304).
كان د.زكي مبارك، كما يقول الاستاذ فلسطين يحمل ثلاث شهادات دكتوراه في الادب العربي، ورغم ذلك انهيت خدمته في الجامعة المصرية بلاسبب اكاديمي «ولو اختصرت حياته لقلت انه اكبر اديب مشاكس عرفه العصر الحديث، فلا اظن ان هناك اديبا عاش في معارك متصلة، ومشاكسات غير منقطعة ومباكسات لا تنتهي كزكي مبارك»، ويقول «فلسطين» ان كلمة «مباكسات» هذه اوردتها الطبعة الاولى من «المعجم الوسيط» ثم حذفت في الطبعة الثانية! ويقول انه عرف د.زكي مبارك في العديد من المنتديات، «فبهرني علمه، اما شخصيته فقد نفرتني منها اشد تنفير». ويضيف ان د.زكي مبارك كان «لا يختار من مشارب القاهرة الا اوضعها، ولا يلبس الا الزري من الثياب، ولا يهتم بتهذيب شعره او حلاقة ذقنه. وكنت اراه في الامسيات جالسا بالساعات في تلك المشارب الرخيصة ولا هم له الا تأمل الناس والسابلة» (ص245).
من الذين اشتهروا بالتهجم الشديد على د.طه حسين الكاتب القومي، ثم الإسلامي الاستاذ انور الجندي (2002-1914)، ويقول عنه في كتابه «معالم الفكر العربي المعاصر»، القاهرة 1961، ان طه حسين في كتابه عن «الشعر الجاهلي» «سخر من القرآن والتوراة، واعلن شكوكه في كثير من حقائق الاسلام والكتب المقدسة، وفي «حديث الاربعاء» حاول ان يصور العصر الثاني الهجري بانه عصر شك ومجون، وفي «هامش السيرة» حاول تغليب الاساطير على اصول السيرة، وفي «مستقبل الثقافة» دعا الى الارتماء في احضان الغرب والاخذ بمذاهبه في الحياة والفكر، ما يُحب منها وما يكره وما يُحمد منها وما يعاب» (ج1، ص193).
الاديب المعروف احمد حسن الزيات (1968-1895) صاحب مجلة «الرسالة» اشهر المجلات الادبية في عهدها حيث توقفت في فبراير 1953 بعد اكثر من الف عدد، يقول: «في ذات عشية عام 1932 زرت اخي د.طه حسين، وقلت له بعد حديث من احاديث الذكرى والامل: ما رأيك في ان نصدر معا مجلة اسبوعية للادب الرفيع؟ فضحك ضحكته التي تبتدئ بابتسامة عريضة ثم تنتهي بقهقهة طويلة وقال: وهل تظنك واجدا لمجلة الادب الرفيع قراء في مجتمع ثقافة خاصة اوروبية، وعقلية عامت امية، والمذبذبون بين ذلك وذلك لا يقرؤون اذا قرؤوا الا المقالة الخفيفة والقصة الخليعة والنكتة المضحكة».. هكذا يقول فلسطين، نفض طه حسين يديه من مشروع مجلة «الرسالة» فنهض به الزيات بمفرده منذ يناير 1933». (وديع فلسطين، 53) ويقول فلسطيني ان طه حسين، في ايامه الاخيرة عندما تكالبت عليه امراض الشيخوخة، «ظل مصرا على التوجه الى مجمع اللغة العربية محمولا على مقعد ليرأس جلساته، ولم يتخلف عن الجلسات الا بعد الحاح شديد من اعضاء المجمع واسرته، وكان ظهره قد انحنى حتى باتت جبهته تصطك بركبته، وكان مع ذلك يصر على الهبوط من الطابق الاعلى في بيته الى الطابق الاسفل لاستقبال ضيوفه».
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق