لعل أنسب ما يمكن أن يكون مقدمة لهذه المذكرات… هو كلمات سطرها صاحب المذكرات بخط يده، وكتب فيها:
لقد كانت حرب أكتوبر 1973 محكا للتجربة ومحكا للقدرة… على التخطيط… وعلى القتال.. ولقد كتب الله لنا النصر من عنده… وسجلناه بدمائنا… وأرواحنا.
ولقد كان دور القوات الجوية في هذه الحرب بارزا، فلعبت أروع أدوارها على التاريخ كله، وضرب طياروها وضباطها وجنودها وكل رجالها أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء.
ولقد كان لي شرف قيادتها خلال المعارك وقبلها وبعدها، ما زادني فخرا بقيادتهم، وإن كان لنا أن نسجل أعمالهم للتاريخ، فإن بطون الكتب أحفظ لأعمالهم، وستبقى هذه الأعمال فخرا للأجيال القادمة.
غير أن أسرار حرب أكتوبر.. ستظل محلا لدراسات مكثفة على المستويات العسكرية والسياسية والشعبية، وإن كانت هذه إحداها فالأمل أن تتلوها آخريات.
ولا تزال آمال أمتنا معلقة بقواتها المسلحة، حتى تستكمل النصر تحت قيادة الرئيس باعث الشرارة الرئيس محمد أنور السادات… والله ولي التوفيق.
محمد حسني مبارك
نائب رئيس الجمهورية
مبارك: إسرائيل هزمت مصر بخطة «بريطانية – فرنسية»
إن اسرائيل تعرف – بلا شك – أن كاتب هذه المذكرات، طيار مقاتل، درس ومارس التخطيط والقتال الجوي، بالمستوى الذي يجعله قادرًا على الحديث عن أي خطة جوية، حديث من يعرف دقائق العملية وأسرارها، بكل ما فيها من نواحي الامتياز والقصور، وبكل ما حوت من تقليد أو تجديد.
وإذا كان هناك احتمال للتعصب من جانبي ضد خطة الجنرال الإسرائيلي مردخاي هود ـ كما رُسمت ونُفذت ـ بحكم العاطفة الوطنية، فإن الضمان الوحيد لكشف الحقيقة، والحقيقة وحدها ـ في تلك الخطة التي تحولت بفعل الدعاية إلى أسطورة ـ هو الاتفاق منذ البداية على أسس موضوعية للتحليل، وقواعد ثابتة معترف بها في جميع مدارس الفكر العسكري ومناهجه، شرقية كانت أم غربية. ثم ننطلق من هذه الأسس والقواعد المتفق عليها علميًّا، إلى تطبيق صحيح لدقائق الضربة الإسرائيلية لطيران مصر.
إذا سرنا خطوة أبعد ـ على طريق التقييم العلمي للخطة العسكرية ـ لكي نسمح لأنفسنا بوصفها بأنها عبقرية أو معجزة، يجب أن يكون واضع الخطة نفسه قد أعطانا المبرر العملي لهذا الوصف، وذلك بتحقيق شرطين أساسيين:
1- الابتكار والتجديد في وضع عناصر العملية القتالية كلها، سواء من ناحية التوقيت للضربة الأولى، أو وسائل تجميع العناصر المشتركة في القتال.
2- وضع الحلول الممكنة ـ والمبتكرة في نفس الوقت ـ للمشكلات القائمة على الجانبين، سواء بالنسبة لجبهة واضع الخطة نفسه، أو المشكلات الناجمة عن موقف جيد يتمتع به الخصم.
ويضاف إلى هذين الشرطين، عنصر مهم لا بد من توافره ـ في الخطة الممتازة، فضلًا عن العبقرية أو المعجزة ـ وهو الإعداد المسبق للحلول العاجلة والبسيطة، لجميع المواقف المعوقة التي يمكن أن يفكر الخصم في اللجوء إليها، عملًا بمبدأ عسكري متعارف عليه، وهو.. أن القائد الناجح هو الذي يؤمن بأن العدو عنده دائمًا ما يخفيه.
إن أصول «النقد الموضوعي» لأي خُطة قتالية، تحتم علينا تطبيقًا لمبادئ الفكر العسكري السليم ـ أن نلقي بنظرة فاحصة على الظروف السياسية والنفسية والعسكرية المتوافرة على الجانبين المتحاربين.. سواء قبيل العملية القتالية، أو خلال تنفيذها، أو بعد الفراغ منها.. واضعين في الاعتبار جميع الاحتمالات التي يُمكن أن تؤدي إليها العملية القتالية موضوع الخطة.
في القاهرة: كانت الأحداث تتلاحق بسرعة مذهلة، ويتصاعد الموقف بشكل لا يترك فرصة لالتقاط الأنفاس:
«1» – رؤساء الوحدات وقادة الأسلحة المختلفة في الجيش المصري، يتلقون الأمر اليومي رقم «1» الذي يقول: «أعلنت حالة الاستعداد القصوى ابتداءً من يوم 15 مايو، الساعة 14:30، وتغادر الفرق والوحدات التي أعدت للعمليات مراكزها الحالية، وتتحرك نحو مناطق التجمع والانتشار التي خُصصت لها، وتستعد القوات المسلحة للانتقال للقتال على الجبهة الإسرائيلية، طبقا لسير العمليات».
«2» – قرار مصري بسحب قوات الطوارئ الدولية المتمركزة على الجانب المصري من الحدود الفاصلة بين مصر وإسرائيل.. ثم إغلاق مضيق تيران في المدخل الجنوبي لخليج العقبة ـ وهو شريان الحياة الوحيد للعلاقات النامية بين إسرائيل ودول أفريقيا والشرق الأقصى.. ومنابع البترول مصدر الطاقة الذي لا حياة لها من دونه.
«3» – مؤتمر صحافي عالمي، يعقده المرحوم الرئيس السابق جمال عبدالناصر، ويعلن فيه ـ أمام المئات من الصحافيين ومراسلي وكالات الأنباء العالمية ـ تهديده لإسرائيل ـ بإلقائها في البحر، إذا نشبت الحرب بينها وبين مصر، أو إذا جازفت بالهجوم على سورية.
«4» ـ لقاء بين جمال عبدالناصر وأعضاء «اللجنة المركزية لاتحاد النقابات العربية» يعلن فيه أنه «إذا هاجمت إسرائيل سورية أو مصر، فإننا جميعًا سندخل الحرب ضدها، وسيكون هدفنا الأساسي هو تدمير إسرائيل.. إنني لم أكن أستطيع أن أقول مثل هذا الكلام منذ ثلاث سنوات أو خمس، وليس من عادتي أن أعد بشيء لست قادرا على تحقيقه.. أما اليوم فإنني مقتنع بانتصارنا.. إن مصر تتوقع في كل لحظة هجوم إسرائيل، الذي سيتيح لنا الفرصة لتدميرها».
إن الجانب السياسي في خطة «مردخاي هود» كان بالنسبة له جانبًا قهريًّا، لا فضل له في تحديد معالمه ولم نبعد دوره الاستفادة من خطأ قائم بالفعل، على الجانب المصري.. ومن ثم نسأل : هل كان الجنرال الإسرائيلي يستطيع أن يحدد لتنفيذ خطته الهجومية ـ لضرب الطيران المصري ـ موعدًا يسبق 5 يونيو ببضعة أشهر، أو يتأخر بضعة أشهر وحتى بضعة أيام ـ عن الموعد الذي نفذت فيه بالفعل؟
أنتقل الآن إلى الموقف العسكري نفسه لكل من طرفي الصراع، لنلقي نظرة فاحصة على هذا الجانب.. لأن التعرف على هذا الموقف، قبل العملية أو بعدها، ضروري لإصدار حكم منصف، سواء بالنسبة لقواتنا المسلحة ـ خصوصا قواتنا الجوية.. الهدف الأول لضربة 5 يونيو ـ أو بالنسبة للعدو نفسه.
ونظرا لاتساع رقعة «الموقف العسكري» ـ الذي يشمل عادة القوات البرية والجوية والبحرية والدفاع الجوي ـ فإننا سنتجه في هذا التحليل إلى موقف القوات الجوية وظروفها على جانبي جهة الصراع لتحليل عناصر الضربة الإسرائيلية للطيران المصري صباح 5 يونيو، ورد هذه الخطة إلى حجمها الصحيح «المتواضع» للغاية من ناحية التخطيط العسكري السليم.
أتوجه بسؤال أولي ومهم للغاية، إلى واضع الخطة الإسرائيلية ـ الجنرال «مردخاي هود».. وهو السؤال الذي لا شك أن الجنرال الإسرائيلي، قد وجه به من خبراء القتال والتخطيط الجوي القائم على القواعد المتعارف عليها في الفكر العسكري ـ بعيدًا عن كل ضوضاء ودعايات الحرب النفسية ـ التي شنتها إسرائيل ضدنا بضراوة لا تعرف الرحمة ـ والسؤال الذي أعنيه، يقول ببساطة:
إذا كان «مردخاي هود» يعرف ـ بحكم منصبه كقائد لسلاح الطيران الإسرائيلي في العام 1967، كل شيء عن إمكانيات هذا السلاح عددًا وعتادًا وتدريبًا.. فماذا كان يعرف بالضبط عن قدرات العدو الذي يخطط لضربه؟ ثم.. ما هي البدائل التي كان من المحتم عليه أن يعدها، أو ـ على الأقل ـ يُفكر فيها، لو فاجأه العدو الجوي ـ المصري ـ بما لم يتوقعه، عملًا بالقاعدة المعروفة التي تقول «إن العدو عنده دائما ما يخفيه»؟
توضيحا لأهمية هذا السؤال، نطرح المبادئ الثلاثة الأولية في التخطيط لأي عملية قتالية – خصوصا ـ في القتال الجوي.. وهي:
1- أن يطمئن واضع الخطة، إلى أنه يملك القوات الضاربة، التي تستطيع تنفيذ الخطة في أسرع وقت، وبدقة كاملة، وبأقل قدر من الخسائر.
2- أن تكون لدى واضع الخطة صورة دقيقة ـ أو أقرب ما تكون للدقة ـ عن إمكانية العدو الجوي.. ودفاعاته، خصوصا في الساعة «س» التي يحددها المخطط العسكري لتنفيذ عمليته الهجومية.
3- التفكير في كل «البدائل» الممكنة، في مواجهة جميع «الاحتمالات» المفاجئة، التي يُمكن أن يلجأ إليها العدو، سواء لتحويل الضربة عن هدفها، أو للتقليل من حجم الخسائر الناجمة عنها، أو ردها على العدو المهاجم، للإيقاع به في شرك خداعي لم يحسب حسابه.. والمبدأ الأخير بالذات، يصرخ بالتحذير في أذن المخطط العسكري.. لا تستهن بالخصم مهما بدا لك من ضعفه ـ الذي قد يكون ظاهريًّا،ولا تغتر بقوتك التي قد تؤدي بك إلى الهلاك.
هذه القواعد الأساسية في التخطيط القتالي ـ التي تمثل في نفس الوقت.. لب السؤال الخطير الذي وُجِّه ولا يزال يوجه للجنرال هود ـ لا بد من تطبيقها على الجانبين ـ المصري والإسرائيلي ـ لتعرف حقيقة ما حدث في الساعة 8.45 من صباح الاثنين 5 يونيو 1967 وهل كان معجزة كبرى.. أم أسطورة كبرى؟
ولكي نطبق تلك القواعد على الجانب المعادي، لا بد من نظرة سريعة على تاريخ نشأة السلاح الجوي الإسرائيلي، والظروف النفسية التي تأسس في ظلها، والعقيدة القتالية التي عاش أفراد هذا السلاح يستنشقونها كالهواء. إلقاء هذه النظرة التاريخية، أمر حيوي، في التحليل المنصف لعملية «طوق الحمامة» التي رسمها «هود»، سواء من حيث التخطيط أو التنفيذ.
وأول ما يطالعنا في تاريخ «الطيران الإسرائيلي» عبارة أطلقها ذات يوم أحد أدباء إسرائيل ووصف فيها طيران بلاده، بأنه «طيران يملك دولة»، ورغم ما يبدو في هذه العبارة من «تهريج» ظاهري ودعاية لاذعة.. فإنها في حقيقة الأمر، تعبر عن واقع مؤسف يعيشه الإسرائيليون، ويخضعون له طوعًا أو كُرهًا.. لأنه نابع من طبيعة الظروف المكونة لإسرائيل كدولة ومجتمع، يقومان على تبني نظرية متعصبة تؤمن ـ من جهة ـ بتفوق الجنس.. وتحلُم من جهة أخرى ـ بالتوسع والاستعمار الاستيطاني لأجزاء من الوطن العربي.
هذا التعصب العنصري، والإيمان بتفوق «الجنس» إلى جانب الحلم الأسطوري بانتزاع أجزاء من أراضي الدول العربية المجاورة؛ جعل وضع إسرائيل منذ قيامها ـ كشعب ودولة ـ في حالة حصار دائم، تمارسه من حولها الدول العربية المحيطة بها.. ولما كانت إسرائيل من جانبها، وبحكم قلتها العددية، بالقياس إلى الكثرة العربية الهائلة من حولها، غير قادرة على رفع هذا الحصار عمليًّا فقد اتجهت إلى رفعه نفسيًّا.
بل إن اسرائيل تجاوزت هذا، إلى التفكير في تحويل الحصار ـ العددي المفروض عليها من العرب ـ إلى حصار نفسي، تفرضه هي على الدول العربية مجتمعة، عن طريق إنشاء قوة ضاربة ذات قدرة قتالية مرتفعة، تستطيع عن طريقها، أن تغرس الرعب في قلب الإنسان العربي، وتحقق بها في نفس الوقت، التوازن النفسي بين أحلام التوسع العدواني التي تعشش في عقل الإسرائيلي، كما تصور هالة أبواق العسكرية الإسرائيلية، وبين الفزع الطبيعي الذي يهاجم هذا المواطن التعس ـ ليل نهار ـ وهو يحس برياح الخطر والعداء تهب عليه وتحاصره من كل جانب.
فإذا عرفنا أن سكان إسرائيل ـ بملايينهم الثلاثة المحدودة ـ لا يمكن أن يشكلوا ـ عدديا على الأقل ـ القوة «البرية» المسلحة التي لا تغرق في محيط الكثرة السكانية العربية الرهيبة من حولها.. يتضح لنا، السر الحقيقي في التركيز على الطيران بالنسبة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية ـ وهي بعقيدتها العدوانية.. تضمن العدوان على الغير كما تتوقعه من الغير بنفس الدرجة.
هكذا تحول الطيران الإسرائيلي، إلى «وهْم كبير» في عقول الإسرائيليين أنفسهم، قبل أن يكون وحشًا خرافيًّا طائرًا بالنسبة للإنسان العربي.. بل إن واجب الإنصاف والأمانة العلمية ـ حتى بالنسبة لخصم لا يتوقف كثيرًا عن الأمانة إذا لم تخدم أهدافه العدوانية ـ يفرض علينا أن نقول إن الشخص الإسرائيلي ـ سواء أكان مواطنًا عاديًّا.. أم واحدا من أكبر قادة المؤسسة العسكرية في إسرائيل ـ هو أولاً وأخيرًا، ضحية لخرافة «الوحش الإسرائيلي الطائر» قبل أن يكون صانعًا لهذه الخرافة أو مروجًا لها.
في الفترة الواقعة بين مايو العام 1948 ويناير 1949،كان هذا السلاح الجوي الناشئ، يقوم بدور لا بأس به في العمليات القتالية التي نشبت بين قوات الدولة الوليدة، وبين «الجيوش العربية» التي اشتركت فيما سُمي وقتها «بحرب التحرير لفلسطين العربية».. ورغم ضآلة حجم وقدرات الطيران الإسرائيلي آنذاك، فإن نشاطه بالذات ضد القوات المصرية ـ التي اقتربت أيامها إلى مسافة 35 كيلو مترا من تل أبيب ـ كان ملحوظًا.
منذ ذلك التاريخ، استطاع «تولكوفسكي» ـ أول قائد لهذا السلاح ـ أن يقنع قادة إسرائيل ـ مدنيين وعسكريين بضرورة العناية بالطيران، وتحويله من مجرد سلاح من أسلحة الجيش إلى وحش طائر.. قادر على حماية إسرائيل والدفاع عنها بعيدًا عن أرض إسرائيل ذاتها ـ والتي لا تسمح بحكم مساحتها الضئيلة بأي عمليات قتالية برية تدور على أرضها المحدودة، وتؤدي إلى اختراقها، أو شطرها ـ ومعنى هذا.. ضرورة توفير عنصرين أساسيين في عملية تكوين هذا السلاح.
أولهما: السرعة.. التي توفرها الأنواع الجيدة والأكثر حداثة والأكبر قوة توفر له في عالم الطيران المقاتل، بحيث تصل الطائرة إلى أبعد مدى، في أسرع وقت ممكن.
ثانيهما: الفاعلية.. الناشئة عن التركيز الشديد، سواء في التدريب الجيد، أو في تناغم الأجهزة المختلفة المشتركة في عمليات هذا السلاح.
وجاءت حرب 1956 ـ التي أخذت فيها إسرائيل دور الشريك الأصغر في العمليات الهجومية التي قامت بها القوات الإنكليزية والفرنسية ضد مصر ـ وأثبتت هذه العمليات مرة ثانية، أهمية، بل حيوية الطيران المقاتل لإسرائيل.. لأن الضربة «الإنجلو فرنسية» العام 1956 – للطيران المصري، عجلت بإخراجه من المعركة، وكانت من أخطر العوامل التي دفعت القيادة المصرية العليا، إلى اتخاذ قرارها بسحب القوات البرية المنتشرة في سيناء.
لقد أطلق «عيزرا وايزمان» ـ خليفة تولكوفسكي في قيادة سلاح الجو الإسرائيلي ـ شعاره المعروف «أن إسرائيل يجب حراستها على ارتفاع أربعين ألف قدم»، ثم أتبعه بشعار آخر أكثر صراحة يقول فيه: «إن الدفاع عن إسرائيل يجب أن يبدأ من سماء القاهرة».
وقد صادف الشعاران هوى في نفس المسيطرين من قادة المؤسسة العسكرية في تل أبيب، وسرعان ما استجابوا بسخاء غير محدود لطلبات سلاح الطيران، بحيث نمت قدرات هذا السلاح نموًّا زائدًا على المعدل الطبيعي لأي سلاح طيران آخر، بالقياس إلى حجم الجيش الإسرائيلي كله، وإلى إمكانيات إسرائيل ذاتها كدولة.
إن ما كان من المحتم على الجنرال الإسرائيلي «هود» أن يضعه نصب عينيه، وهو يضع الخطوط الأولية لعمليته الهجومية، هو عنصر التأمين لقواته الجوية التي ستقوم بالتنفيذ، سواء في ذلك الطائرات القاذفة أو المقاتلة القاذفة، أو حتى طائرات الاعتراض والحماية، التي تصحب القوة القاذفة المكلفة بالهجوم على الأهداف الأرضية للعدو. والعناية المسبقة بعنصر التأمين أثناء تنفيذ عمليات الهجوم الجوي ـ وهو العنصر الذي يُعرف علميًّا باسم الدفاع السلبي المسبق ـ أمر حيوي يتوقف عليه نجاح أو فشل أي خطة جوية.
ومن المعروف أن التأمين الإيجابي للقوات الجوية أثناء قيامها بمهاجمة العدو الأرضي، يعتمد على طائرات الحماية ـ المقاتلة ـ التي تصحب الطائرات القاذفة أثناء تنفيذها مهامها الهجومية ـ والتي تمثل الجانب الإيجابي في عنصر التأمين، الذي يتوقف على ما تملكه الدولة من طائرات الحماية عددًا ونوعًا.
إلا أن الجانب السلبي في عنصر التأمين السابق لعمليات الهجوم الجوي، أكثر خطورة على العدو المستهدف بالضربة الجوية، رغم أنه لا يكلف واضع الخطة عبئًا ماديًّا، يثقل كاهل قواته الجوية، لأن التأمين السلبي يعتمد أولاً وأخيرًا على تعطيل أو تحاشي أجهزة الإنذار المبكر، التي يملكها العدو المستهدف بالضرب، والتي يستطيع عن طريقها، أن يعرف مسبقًا ـ ولو لبضع دقائق تسبق الهجوم ـ أن هناك عدوًّا جويًّا في الطريق إليه. هذه الدقائق القليلة التي تفصل بين صيحات التحذير التي تطلقها أجهزة الإنذار المبكر، وبين وقوع الضربة الجوية، هي التي يتوقف عليها نجاح أو فشل العدو الجوي المغير، من جهة، ونجاة أو دمار العدو المستهدف بالهجوم من جهة أخرى.
وفي خطة الجنرال مردخاي هود سنجد عنصر التأمين ـ الإيجابي والسلبي ـ موجودين.. ولكننا نترك الحديث عن الجانب الإيجابي في التأمين، لنتناوله بالعرض، عند تحليلنا لتفاصيل العملية ذاتها. ونقصر حديثنا هنا على الجانب السلبي في عملية التأمين، وهو الدفاع السلبي الذي كان على الجنرال «هود» أن يوفره لقواته الجوية، عن طريق تعطيل أو تحاشى أجهزة الإنذار المبكر، على الجبهة المصرية، ضمانًا لمفاجأة وسائل الدفاع الجوي المصري ـ الثابت والمتحرك منها على السواء.. وهنا.. تتضح لنا الحقائق التالية:
أولاً: إن مساحة جمهورية مصر العربية تبلغ 386 ألف ميل مربع، من الرقعة الأرضية الثابتة، فإذا أضيفت إليها، طبقًا لأحكام القانون الدولي العام، والقانون البحري الدولي، المساحات التي تخضع للسيادة المصرية من المياه الإقليمية في البحر الأحمر ـ الذي يشكل معظم الحدود الشرقية لمصر ـ والبحر الأبيض الذي يشكل ساحله الجنوبي الحدود الشمالية لمصر كلها، فإن المساحة الخاضعة لسيادة جمهورية مصر العربية، ترتفع إلى ما يقرب من نصف المليون من الأميال المربعة تقريبًا.. ومثل هذه المساحة الهائلة تتطلب إمكانيات ضخمة من وسائل الإنذار المبكر، التي يجب انتشارها على الحدود الشرقية ـ سواء في سيناء أو على سواحل البحر الأحمر، شرقًا ـ وعلى امتداد الساحل المصري للبحر الأبيض من حدود قطاع غزة شرقًا، إلى مطروح والسلوم غربًا ـ لقطع الطريق على أي عمليات هجومية مفاجئة يقوم بها العدو الجوي معتمدًا على هذا الامتداد الهائل لحدودنا الشرقية والشمالية.
ثانيا: لكي يتوافر لهذه الحدود البالغة الطول حزام الأمان المحكم، من أي عمليات هجومية جوية مفاجئة يجب تنويع وسائل الإنذار المبكر من أجهزة رادار متقدمة ووسائل إنذار بشري ـ تعتمد على الرؤية المباشرة ـ إلى جانب وسائل الإنذار المتحركة، الممثلة في مظلات طائرات الحماية والاعتراض، التي يجب أن تظل أسرابها معلقة في الجو طوال الأربع والعشرين ساعة، خصوصا في مواجهة عدو يهرب دائمًا من المواجهة، ويتحين الفرص باستمرار لاقتناص الفرص للضربات المفاجئة التي يقدر أنها تحقق له أكبر قدر من النجاح بأقل قدر من الجهد والخسائر.
ثالثًا: كان من الواجب على العسكرية المصرية ـ في العام 1967، وقد تحملت مسـؤولية حماية الأرض المصرية ـ فضلاً عن التفكير في عملية ردع للغزو العسكري وجنون التوسع العدواني، الذي يمثل صلب العقيدة القتالية للمؤسسة العسكرية في إسرائيل.. أقول كان واجبًا على العسكرية المصرية في مواجهة كل هذه التحديات، التي تمثلت في حدود مصرية بالغة الطول، وفي حاجة ماسة للتأمين ضد الهجوم الجوي من عدو يفاخر بأنه يملك ذراعًا طويلة اسمها «الطيران الإسرائيلي» يعتمد عليها في تنفيذ مخططه العدواني.. أن تضع نصب عينيها، وهي تخطط للدفاع عن مصر، ما حققه الطيران الحربي في العالم، من خطوات واسعة المدى على طريق التقدم، سواء من حيث التسليح أو كمية الذخائر المحمولة بالنسبة للطائرات القاذفة ـ أو القدرة على المناورة والطيران على ارتفاعات بالغة الانخفاض ـ بالنسبة لكل أنواع الطائرات الحربية بوجه عام.
لقد كان هذا يقتضي بالضرورة، الاستماتة في الحصول على أحدث أجهزة الرادار القادرة على كشف الأهداف المعادية التي تتحرك على ارتفاعات منخفضة، ونشر هذه الأجهزة في أنساق متتالية على امتداد الحدود الشرقية والشمالية لمصر، التي يمكن أن يفكر العدو في اختراقها، للقيام بضربة جوية مفاجئة.. وإلى جانب حزام أجهزة الكشف الراداري ـ القادرة على إرسال موجاتها على ارتفاعات منخفضة ـ كان من المحتم أيضا، العناية بأسلوب الإنذار البشري بالعين المجردة، وهو ـ رغم ما قد يبدو من بدائيته أسلوب أثبت فعاليته في كثير من الأحوال، وقدرته على سد الثغرات في حزام الأمان الذي تكونه أجهزة الرادار الحديثة.
الحقيقة الرابعة: التي كان من الواجب وضعها في الحسبان، إذا أرادت العسكرية المصرية في العام 1967 ـ أن تقي بها مصر جيشًا وشعبًا أي مفاجأة غادرة، خصوصا مع تصاعد التوتر في الموقفين السياسي والعسكري مع العدو ـ قبيل ضربة الخامس من يونيو ـ هي المرونة في وضع خطط الإنذار المتحرك، الخاصة بمظلات طائرات الحماية والاعتراض، التي أثبتت التجارب العملية نجاحها في التغلب على كثير من الصعوبات التي تواجه أجهزة الإنذار الأرضية الثابتة كعمليات التشويش والإعاقة والتمويه التي قد يلجأ إليها العدو ليعطل بها أجهزة الرادار، أو يصيبها بالعمى، فتعجز عن القيام بمهمتها الخطيرة في الإنذار المبكر باقتراب العدو الجوي.
ومن هنا كان وجود أسراب طائرات الحماية والاعتراض، معلقة في الأجواء المصرية ـ وعلى طلعات متفاوتة المواعيد طوال الأربع والعشرين ساعة ـ هو الضمان الحتمي، لمواجهة أي احتمال لتعطيل أجهزة الرادار أو تضليلها.. ومعنى هذا بالضرورة.. هو المرونة في مواعيد إقلاع هذه المظلة الجوية وهبوطها.. وعدم ثبات هذه المواعيد، بحيث لا يأخذ العدو فرصة لالتقاط أنفاسه ولا يستطيع تحديد وقت معين تخلو فيه السماء المصرية من طائرات الحماية، يستطيع خلاله أن يضرب ضربته الجوية المفاجئة.
هذه الحقائق الأربع، التي كان من المحتم على العسكرية المصرية لو أنها أخذت بالقواعد العلمية في وضع خططها العسكرية للدفاع عن مصر جوًّا وأرضًا ـ أن تعتبرها ركائزها الأساسية، هي نفسها الثغرات الأربع التي نفذ منها الجنرال الإسرائيلي «مردخاي هود» وهو يضع خطة عمليته الهجومية «طوق الحمامة».
ونجد أنفسنا أمام أخطر سؤالين، طرحهما خبراء التخطيط للعمليات الهجومية الجوية ـ في معاهد الدراسات الاستراتيجية العالمية، كما طرح نفس السؤالين على الجنرال «هود» ومعاونيه؛ الملحقين العسكريين الأجانب في تل أبيب، عقب ضربة 5 يونيو 1967.
السؤال الأول يقول: لماذا حددت إسرائيل ساعة الصفر لتنفيذ عمليتها الجوية لضرب الطيران المصري ـ في الساعة الثامنة إلا الربع بتوقيت تل أبيب ـ التاسعة إلا الربع بتوقيت القاهرة ـ مثلًا ـ لم يبدأ الهجوم قبل ذلك الموعد أو بعده بساعة؟
السؤال الثاني: يتناول جانبين مهمين من العملية الهجومية الإسرائيلية، وهما: تحقيق عنصر المفاجأة الكاملة ـ تقريبًا ـ لسلاح الجو المصري، ثم.. ارتفاع عدد الطلعات التي قامت بها الطائرات المغيرة في اليوم الواحد ـ يوم 5 يونيو ـ بحيث حققت سلسلة متصلة الحلقات من الغارات شبه المستمرة على المطارات المصرية، جعلت منها طوقًا، أشبه بطوق الحمامة، وهو نفس الاسم الكودي للعملية الإسرائيلية.
وبالنسبة للسؤال الأول ـ الخاص بتحديد ساعة الصفر في التاسعة إلا الربع بتوقيت القاهرة ـ فقد اضطرت قيادة سلاح الجو الإسرائيلي ـ وبعيدًا عن كل الدعاية وأساطير الحرب النفسية ـ إلى الاعتراف بالحقيقة، وهي أن الجنرال الإسرائيلي «هود» استفاد من خطأ القيادة المصرية التي كانت ـ طبقًا للنظرية العسكرية المتخلفة التي أشرنا إليها من قبل ـ تحدد ساعة الخطر المرتقب «بأول ضوء».
لم يكن على «هود» سوى الابتعاد عن هذه الساعة الخطرة من وجهة النظر المصرية، التي تبلغ فيها الدفاعات المصرية ـ الثابتة والمتحركة ـ أقصى مدى لها.. وهذا ما فعله بالضبط، فقد ابتعد عن تلك اللحظة الحرجة بالنسبة لطياريه، التي يحتمل أن يواجهوا فيها طائرات الحماية والاعتراض التي تحلق في الأجواء المصرية ـ عقب أول ضوء ـ ثم تهبط إلى قواعدها عند زوال الخطر كما تتصوره قياداتنا السابقة، كما أن الجنرال الإسرائيلي، استفاد من تقارير الأرصاد الجوية التي أكدت أن الممرات التي كان قد حددها كمسار لطائرات الموجة الأولى من موجات الضربة الجوية، وتقع في المدخل الشمالي للدلتا ـ من ناحية البحر الأبيض ـ ستكون مغطاة بضباب لن ينقشع قبل الساعة الثامنة صباحًا، وسيكتمل انقشاع هذا الضباب بعد ذلك بنحو نصف الساعة، فإذا بدأت الموجة أولى هجومها في التاسعة إلا الربع، فإن طياريها سيضمنون رؤية واضحة تمامًا لأهدافهم من ناحية، واسترخاء مداهم الجوي الذي تحكم قياداته نظرية بالية من مخلفات الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى.
بالنسبة للسؤال الثاني ـ الخاص بتحقيق الطيران الإسرائيلي، للمفاجأة الكاملة لسلاح الجو المصري، من ناحية، وارتفاع عدد الطلعات التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية في اليوم الواحد ـ فإن الأمر لم يكن بحاجة إلى كل هذه الأساطير التي نسجتها أبواق الدعاية وأجهزة الحرب النفسية الإسرائيلية، لتضخم ما حدث يوم 5 يونيو. ذلك أن نجاح الطيران الإسرائيلي في مفاجأة الطيران المصري في ذلك اليوم، لا يرجع إطلاقًا إلى عبقرية عسكرية فذة، وليس معجزة يستحيل تكرارها.. الأمر أبسط من هذا ـ وأكاد أقول.. أكثر سذاجة مما صورته الدعايات الإسرائيلية..وهو لا يخرج عن استفادة جيدة من الإمكانيات المتاحة للجنرال هود وسلاحه الجوي من ناحية، واستغلال الخطأ في التفكير العسكري، والقصور في العتاد، خصوصا في أجهزة وأساليب الإنذار المبكر على الجانب المصري.
ولو أننا استعدنا تفاصيل العملية الهجومية ذاتها كما خطط لها هود ونفذها طياروه؛ لوجدنا أمامنا الدليل القاطع، الذي لا يقبل المناقشة على صحة ما ذهبنا إليه من بساطة وتقليدية خطة العملية الإسرائيلية، وخلوها من أي ملمح من ملامح العبقرية والإعجاز العسكري، إلا إذا جاز لنا أن نصف التلميذ الذي يحفظ جدول الضرب، بأنه عبقري معجزة، إذا استطاع أن يعرف أن الرقم 144 ـ مثلا ـ هو حاصل ضرب الرقمين 12في 12.
إن مردخاي هود في تخطيطه لعملية 5 يونيو، كان تلميذًا مجدًّا للعسكرية «الإنجلوفرنسية»، التي خططت لضرب سلاح الجو المصري العام 1956 ـ التي عرفت باسم العدوان الثلاثي.. والتي أخذت فيها إسرائيل دور الشريك الأصغر، الذي تعلق بذيل العربة التي يقودها الشريكان الأكبر سنًّا، والأكثر ثراءً ومقدرة.
ففي العملية الأولى التي نفذها الطيران الإنكليزي بالاشتراك مع الطيران الفرنسي، أتت الطائرات المغيرة من البحر الأبيض، ودخلت الأجواء المصرية من شمال الدلتا، لتهاجم المطارات المصرية، التي كانت معروفة تمامًا، بكل تفاصيلها وتجهيزاتها للطيارين الإنكليز، الذين لم يكن قد مضى على مغادرتهم لهذه القواعد الجوية سوى فترة زمنية قصيرة لم تكن تسمح بتغيير معالم هذه المطارات، أو إنشاء مطارات أخرى غيرها، تكون مجهولة تمامًا من العدو المغير.
وقد ساعد الطيران الفرنسي والإنكليزي على إحداث عنصر المفاجآت العام 1956 ـ لسلاح الجو المصري، عملية التخدير السياسي التي لعبتها السياسة البريطانية، على عهد إيدن ـ بإحكام ومهارة، بحيث رسَّبت عند القيادة المصرية على أعلى مستوى سياسي وعسكري في ذلك الوقت، إحساسًا قويًّا، باستبعاد قيام الدولتين الشريكتين، إنكلترا إيدن، وفرنسا جي موليه ـ بأي عمل مسلح لعرض وجهة نظرهما بالقوة في قضية تأميم القناة التي تفجر الصراع المسلح.
وكنتيجة لهذا الاطمئنان السياسي، حدث نوع من الاسترخاء العسكري امتد أثره بالضرورة إلى سلاح الجو المصري ـ الذي لم تكن عنده أوامر بالدخول في حرب أو احتمال دخولها بسرعة.. هذا هو ما حدث بالضبط في العام 1956، وبتخطيط سياسي وعسكري من العسكرية الإنجلوفرنسية.. وكانت النتيجة ما نعرفه جميعًا، من إصابة سلاحنا الجوي بضربة قاصمة، وطائراته جاثمة على الأرض.
ماذا حدث في 5 يونيو.. وبتخطيط وتنفيذ إسرائيلي بحت.. نفس الشيء تماما. ونفس الخطة نجدها كاملة، ونفس المسارين السياسي والعسكري بلا أدنى إضافة توحي بعبقرية، أو حتى بتجديد ذكي.
والدراسة المقارنة لكل من الضربتين اللتين وجهتا لسلاح الجو المصري ـ في العام 1956. ثم في العام 1967 ـ تؤكد أن الإسرائيليين لم يكونوا أكثر من تلامذة مجتهدين حفظوا الدرس الذي لقنه لهم أساتذتهم من قادة العسكرية البريطانية والفرنسية ـ في عملية 1956، التي عرفت في المراجع العسكرية ومعاهد الدراسات الاستراتيجية باسم حرب أو عملية السويس.
وقد أعاد الإسرائيليون تنفيذ هذه العمليات الإنجلوفرنسية بحذافيرها.. وبلا أدنى محاولة للخلق أو الابتكار تخطيطًَا أو تنفيذًا، مع فارق واحد بين العمليتين، هو أن طياري بريطانيا وفرنسا ـ في عملية 1956 ـ كان يملأهم الغرور والثقة بالنفس، لأنهم الأجنحة الطائرة لدولتين من أكبر دول أوروبا الغربية من ناحية، ولأنهم يعرفون دقائق وتفاصيل المطارات المصرية التي يقصفونها، والتي كانت إلى عهد قريب؛ قواعد جوية بريطانية، حتى وقعت اتفاقية الجلاء في يونيو العام 1954.
أما التلامذة الجدد ـ مردخاي وطياروه ـ فقد كانوا عند تنفيذ عمليتهم الهجومية، أو بمعنى أدق، عندما كانوا يعيدون تنفيذ نفس العملية ـ في 5 يونيو 1967 ـ كانوا يدركون تمامًا، أن اللعبة أكبر بكثير من حجمهم، وأكبر بكثير من حجم إسرائيل ذاتها، وأن أي احتمال للفشل في إعادة تنفيذهم للخطة الإنجلو فرنسية يعني شيئًا رهيبًا بالنسبة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي تتحكم في كل شيء في تل أبيب. وقد أخذوا أنفسهم بمنتهى الجدية في التدريب الشاق على تنفيذ العملية ـ التي شاهدوا أساتذتهم ينفذونها العام 1956 ـ واتَّبعوا نفس التخطيط السياسي والعسكري للتمهيد للعملية ثم تنفيذها.
على الجانب العسكري لكلتا العمليتين في 1956 و1967؛ نجد نفس التقليد الحرفي، يقوم به التلميذ الإسرائيلي «مردخاي هود» لخطة أساتذته من قادة الطيران الإنجلوفرنسي الذين خططوا لضرب السلاح الجو المصري في عملية 1956.
1ـ في الساعة الخامسة من بعد ظهر الحادي والثلاثين من أكتوبر العام 1956. أقلعت الطائرات البريطانية والفرنسية المخصصة للعملية، من قواعدها محلقة شرقا فوق البحر الأبيض المتوسط، وعندما وصلت إلى محاذاة وسط الدلتا انحرفت جنوبًا واخترقت المجال المصري في المنطقة الواقعة بين غرب بورسعيد، وشرق دمياط، وهي المنطقة التي تمثل بتكوينها الجغرافي، ثغرة طبيعية في حزام الأمن الذي تقيمه أجهزة الإنذار المبكر.. بسبب بحيرة المنزلة التي تمتد شمال الدلتا وتغطي مساحة ضخمة لا يفصلها عن مياه البحر الأبيض سوى شريط ساحلي بالغ الضيق.
ومن هذا الممر الآمن، شقت الطائرات المغيرة طريقها في سماء مصر، لتصل بعد لحظات إلى قواعدنا الجوية ـ المحدودة في ذلك الوقت ـ في كل من منطقة القنال والدلتا والقاهرة، وهي قواعد ومطارات معروفة جيدًا للطيارين الذين تولوا تنفيذ العملية الهجومية ـ حيث كانوا يقيمون بها قبل أن يرحلوا منها عقب تنفيذ اتفاقية الجلاء التي وقعت العام 1954.
ما قد يبدو وللوهلة الأولى، وكأنه ابتكار أو إضافات خلاقة أضافها واضع النسخة الإسرائيلية من الخطة البريطانية الفرنسية ـ لعملية ضرب الطيران المصري وهو جاثم على الأرض ـ لا يخرج في حقيقته عن استفادة جيدة من ظروف مواتية، أو ابتكارات استحدثت في مجال الطيران الحربي، ولم تكن موجودة أثناء تنفيذ الأصل الإنجلوفرنسي للعملية العام 1956.
إن السنوات الإحدى عشرة التي تفصل بين عملية 1956 الإنجلوفرنسية والنسخة الإسرائيلية المكررة لنفس الضربة العام 1967، هذه السنوات الطويلة، حدث فيها تطور هائل في مجال الطيران العسكري، واستحدثت خلالها ابتكارات شبه أسطورية في تصميم وبناء الطائرة الحربية وأعطتها إمكانيات هائلة، وقدرات قتالية لم تكن تخطر على بال أحد.. وأبسط هذه الإمكانيات قدرة الطيار المقاتل على التحكم في طائرته وهو يُحلق على ارتفاعات بالغة الانخفاض، وهو آمن تمامًا من أي مفاجآت، لأنه يطير في حماية أجهزة إلكترونية معاونة، تيسر له التحكم في طائرته على أي ارتفاع، وتحاشي الاصطدام بأي نتراءات تصادفه أثناء طيرانه المنخفض، وكأجهزة الإنذار الموجودة بالطائرة والتي تنبه الطيار إلى وجود خطر يلاحقه أو يهدده.
كما أن التطور الذي لحق طوال السنوات التي تفصل بين العمليتين الأصل الإنجلوفرنسي والتقليد الإسرائيلي استحدثت في مجال الإنذار المبكر، خصوصا في أجهزة الكشف الراداري، ابتكارات متلاحقة، جعلت من هذه الأجهزة خطرًا ساحقًا يهدد الطائرات المغيرة، بحيث لا تكون هناك فرصة للطيار المقاتل لكي يفلت من هذه الأجهزة إلا بالاستفادة من الفرصة الوحيدة، المتاحة أمامه، وذلك باستغلال قدرات طائرته على المناورة والطيران المنخفض.
من هاتين الحقيقتين، يتضح لنا أن اتخاذ أسلوب الطيران المنخفض الذي لجأ له طيارو إسرائيل في 5 يونيو، ليس دليلًا على عبقرية فترة في التخطيط أو التنفيذ، بل هو استفادة من إمكانيات أتيحت لهم وقت تنفيذهم لعملية خططها أساتذتهم الإنجليز والفرنسيون، ولم تكن متاحة من قبل.. بل هو رضوخ حتمي اضطروا إليه، ولكي ينجوا بأنفسهم وبطائراتهم من الوقوع في مصيدة الكشف الراداري الذي يرسل نبضاته المتلصصة على ارتفاعات عالية، ومن ثم اضطروا للطيران المنخفض في المستوى الذي يعرفون أن مصر لا تملك أجهزة الكشف الراداري القادرة على اكتشافهم فيه.
إن أبرز الحقائق التي سعت عمليات الدعاية الإسرائيلية لإخفائها في ذلك الوقت عديدة.. ومنها :
1ـ إن أجهزة ووسائل الدفاع الجوي الثابتة ـ التي كانت تملكها مصر وقت الضربة ـ كانت من القصور، بحيث أعطت للطائرات المغيرة ـ خصوصا طائرات الموجة الأولى، التي قامت بضرب المطارات المصرية في التاسعة إلا الربع من صباح الاثنين 5 يونيو ـ حرية في الحركة، لم تكن لتتاح لهذه الطائرات، لو أن المطارات والقواعد الجوية المصرية ـ التي لم تكن تزيد وقت الضربة على بضعة عشر مطارًا ـ كانت تملك القدر الكافي من وسائل الدفاع المضاد للطائرات، خصوصا الأنواع الحديثة منها.
وعلى سبيل المثال، فقد كان أحدث سلاح تملكه مصر من أسلحة الدفاع ـ في ذلك الوقت ـ ضد الطيران المهاجم، هو الصاروخ «سام 2: أرض ـ جو»، وهو رغم قدرته التدميرية، كان عاجزًا عن حماية الطائرات المصرية الجاثمة على الأرض وقت تنفيذ العملية، لسبب بسيط وهو أنه لا يعمل عمله المؤثر إلا ضد الطائرات المحلقة على ارتفاعات عالية، أما الطائرات الحديثة القادرة على التحليق على ارتفاعات منخفضة ـ كطائرة «الميراج/ 3 الفرنسية» التي استخدمتها إسرائيل في الموجة الأولى لعملية 5 يونيو ـ فإن الصاروخ «سام ـ 2» يقف عاجزًا تمامًا عن إصابتها، لأنها تطير على ارتفاع منخفض خارج قدرته التدميرية في الارتفاعات العالية.
ومن القواعد المعروفة في مجال الحرب الجوية، أن الطيار الذي يهاجم وهو مطمئن إلى ابتعاده عن مجال الدفاعات الأرضية للعدو ـ من صواريخ أو مدفعية مضادة تقليدية ـ مع معرفته المسبقة بأن الدفاعات المتحركة من طائرات اعتراضية أو مقاتلة، تجثم على الأرض، يتجه إلى هدفه وهو في أقصى حالات سيطرته على أعصابه، وبالتالي فلا عذر له إن لم يحسن التصويب على الأهداف المطلوب قصفها، خصوصًا إذا كان هذا التصويب يتم آليًّا بواسطة أجهزة حديثة بالغة الدقة زودت بها الطائرة التي يقودها.. ومثل هذا الطيار عندما يصيب هدفه، قد يُوصف بأنه طيار مدرب ـ أو حتى جيد التدريب ـ كان وصفه بالإعجاز والعبقرية.
2 ـ مثال آخر يؤكد أن ارتفاع نسبة الخسائر التي أصيب بها سلاح الجو المصري في 5 يونيو 1967 ـ خصوصا في الطائرات التي ضربت على الأرض ـ لا يرجع إلى قدرات خارقة للطيارين الإسرائيليين، وأن سببه الفعلي حقائق وأخطاء كانت موجودة على الجانب المصري، واستفاد منها العدو المهاجم ببساطة، ثم حاول إخفاءها، لكي يضفي على طياريه قدرات أسطورية.
مثال ذلك أن الأغلبية الساحقة من الطائرات المصرية، كانت ترقد على أرض مطاراتنا وقواعدنا الجوية.. في العراء.. مكشوفة تمامًا، كهدف ظاهر للعين المجردة حتى على ارتفاعات عالية، فضلًا عن طائرات معادية اتخذت في هجومها تكتيك التحليق على ارتفاعات منخفضة.. وترك الطائرة الحربية مكشوفة ومتراصة على أرض المطار، بلا غطاء يحميها، بل بلا تمويه فعال، يضلل الطيار المغير عن حقيقتها، غلطة قاتلة وقعت فيها القيادات المصرية العام 1967، ودفع ثمنها سلاح الجو المصري غاليًا.
ولو أن هذه الطائرات كانت ترقد بمحركاتها الساكنة داخل دشم حديثة مجهزة قوية البنيان، لتغيرت الصورة عما حدث صبيحة 5 يونيو، ولعادت طائرة الموجة الأولى للهجوم الجوي الإسرائيلي، دون أن تحقق عُشر ما حققته من نتائج تدميرية، ضد طائرات تُركت في العراء، صيدًا ثمينًا وسهلا، بلا غطاء تحميها شر التدمير وهي جاثمة على الأرض بلا حراك.
ولو أن هذا حدث فعلًا، وكانت هناك الدشم القوية ووسائل الدفاع القادرة على حماية طائراتنا من هول الضربة الأولى، لنجت الأغلبية الساحقة من طائراتنا الحربية، وهو أمر كان سيغير نتيجة العمليات العسكرية كلها، تغييرًا جذريا، لأن العدو الذي ينجح في امتصاص الضربة الأولى دون أن يفقد توازنه، أو يفقد سيطرته على قواته، وقدرته على تحريك هذه القوات بأعصاب ثابتة وفكر هادئ متزن، يكون أقدر على توجيه الضربة المضادة المميتة، التي تنجح في تكبيد العدو خسائر أفدح بكثير مما تكبد هو في الضربة الأولى التي نجح في امتصاصها ونجح في النجاة من رد فعلها العنيف وتأثيره على الروح المعنوية لقواته، وهو تأثير قد يكون أعنف من التأثير التدميري للضربة ذاتها.
3ـ حقيقة ثالثة ـ لا أظن أن كثيرين يعرفونها، رغم أنها ثابتة في ملفات سلاح الطيران الملكي البريطاني ـ وهي أن «عيزرا وايزمان» ثالث الجنرالات الإسرائيليين الذين تولوا قيادة سلاح الطيران الإسرائيلي ـ بعد «أهارون ريمز» و«دان تولكوفسكي» ـ عمل أثناء الحرب العالمية الثانية وقبيل قيام إسرائيل كدولة، كواحد من رجال سلاح الطيران الملكي البريطاني في القواعد الجوية التي كانت تحتلها القوات البريطانية في منطقة قناة السويس.
وحتى لا تسارع المؤسسة العسكرية في تل أبيب بالإنكار كعادتها ـ خصوصا عندما تواجه بكشف حقيقة مؤلمة كانت تحرص على بقائها على الكتمان ـ فإنني أحدد آخر مطار خدم به «الجنرال الإسرائيلي وايزمان» على الأرض المصرية ـ أثناء خدمته بسلاح الطيران البريطاني ـ وهو مطار «فايد».
والحكم بيننا هو سجلات الخدمة بسلاح الجو الملكي في لندن.. وبالتالي كان يعرف هذه المطارات التي خدم بها ـ وآخرها مطار فايد ـ حق معرفة، ويعرف تفاصيل المنشآت بكل مطار خدم به.
ومثل هذه الحقيقة الرهيبة، حين نزنها بوزنها الصحيح في مجال التأثير على موقع الصراع على السيادة الجوية في المنطقة بين سلاحنا الجوي المصري، وسلاح إسرائيل الجوي، ستعطينا التفسير المنطقي، والسبب الحقيقي، لدقة الطيار الإسرائيلي في إصابة الأهداف المصرية من طائرات جاثمة على أرض المطارات، أو منشآت المطار وأبنيته المعاونة نفسها.
فإذا عرفنا أن المطارات والقواعد الجوية، التي تسلمها الطيران المصري، من سلاح الطيران البريطاني، بعد جلاء الإنكليز من مصر طبقًا لاتفاقية العام 1954، كانت تمثل أكثر من ثمانين في المئة من المطارات المصرية التي ضربت صباح 5 يونيو العام 1967، وأن هذه المطارات التي عمل بها الجنرال «وايزمان» ظلت كما هي ـ منذ تركها. ولم تُفكر القيادة المصرية ـ مع بالغ الأسف ـ في مجرد تغيير معالمها، حتى بعد أن ثبت من العملية الإنجلوفرنسية ـ العام 1956 ـ أن هذه المطارات بكل تفاصيلها ومنشآتها ليست سرًّا حربيًّا قوميًّا.. وأن هناك دولة أجنبية واحدة على الأقل ـ هي إنكلترا ـ تعرف كل أسرار هذه المطارات.
بقيت نقطتان لابد من الإشارة إليهما، لكي نستكمل تحليلنا العلمي، لحقيقة ما حدث صباح الاثنين 5 يونيو العام 1967، ورده إلى حجمه الطبيعي في مجال التخطيط والتنفيذ :
النقطة الأولى: تتمثل في ظاهرة لفتت الأنظار ـ في ذلك اليوم المشؤوم ـ وكانت مثار الكلام كثيرًا في كل ما كُتب عن «حرب الأيام الستة» كما سُميت عمليات 1967..وهي تتابع موجات الهجوم الجوي الإسرائيلي على المطارات المصرية، من الثامنة إلا الربع ـ بتوقيت إسرائيل ـ حين وصلت طائرات الموجة الأولى فوق مطاراتنا، وبدأت في قصفها، إلى أن رفع «مردخاي هود» سماعة التليفون، في مكتبه برئاسة عمليات السلاح الجوي الإسرائيلي، لكي يقول لإسحق رابين ـ رئيس أركان جيش إسرائيل العام 1967 ـ «لقد تمت المهمة… لم يعد الطيران المصري قادرًا على القيام بأي عمل».
إذا رجعنا إلى تقارير عمليات الطيران ـ والدفاعات الجوية ـ على الجانبين، المصري والإسرائيلي في ذلك الوقت؛ سنجد أن هذه المساحة الزمنية البالغة القصر ـ التي لا تتجاوز خمسا وستين ومئة دقيقة ـ قد تخللتها موجات متتابعة من الهجمات الإسرائيلية فوق الأهداف الحيوية لسلاح الجو المصري ـ من طائرات ومطارات ومنشآت معاونة ـ وأن هذا التتابع في موجات الهجوم لم ينقطع لأكثر من عشر دقائق ـ إلى ربع الساعة على الأكثر ـ بين هجمة وأخرى في بعض الحالات وأن بعض المطارات المهمة ـ خصوصا المطارات المتقدمة، أو القواعد الجوية لأنواع ذات تأثير استراتيجي من الطائرات المصرية ـ قد تعرضت لموجات هجومية وصلت في بعض الحالات إلى عشر موجات متوالية، بينما هبطت موجات الهجوم بالنسبة لبعض المطارات ذات الأهمية الثانوية ـ من وجهة نظر العدد ـ إلى موجة أو موجتين فقط.
بهذا نجد أن جموع الموجات الهجومية التي قام بها الطيران الإسرائيلي في ذلك اليوم، تصل إلى عدد يلفت النظر، ويستحق الوقوف عنده بالتساؤل.. هل كان هذا التتابع والاستمرار في موجات هذه العملية الهجومية، راجعًا إلى عبقرية فذة في التخطيط، أم أن هناك سببًا آخر لهذا التتابع المنتظم في موجات الهجوم، من بدء العملية إلى نهايتها، وأن هذا السبب لا صلة له من قريب أو من بعيد بعبقرية التخطيط، أو الإعجاز في التنفيذ؟
إجابتي عن هذا السؤال، ستتجه منذ البداية إلى حقيقة لا سبيل إلى إنكارها.. وهي استنطاق «الأرقام» التي لا تعرف الكذب أو الخداع أو التضليل.
الأرقام تقول: إن الجنرال الإسرائيلي «مردخاي هود» كانت تحت تصرفه، وهو يضع اللمسات الأخيرة من العمليات الهجومية، التي نفذها ثلاثمئة وخمس طائرات حربية، ما بين قاذفة، ومقاتلة قاذفة، وطائرات اعتراضية، تصلح للقيام بمهام العمليات الهجومية المطلوب تنفيذها.
وإذا كانت المطارات المصرية المطلوب قصفها في ذلك اليوم، تتراوح من حيث البعد والقرب ـ عن قواعد الطائرات الإسرائيلية المكلفة بتنفيذ العملية، كما تتراوح هذه المطارات أيضًا، من حيث أهميتها أو عدم أهميتها من وجهة نظر الجنرال «هود» فإن لغة الأرقام ـ التي لا تعرف الكذب ـ تقول إنه كان يملك يوم 5 يونيو، اثنتين وسبعين طائرة من طراز «ميراج/ 3» المقاتلة الاعتراضية حاملة الصواريخ «جو ـ أرض» و«جو ـ جو» وأربعين مقاتلة قاذفة من طراز «أوراجان» وأربعا وعشرين مقاتلة من طراز «وتور» وأربعا وعشرين مقاتلة من طراز «سوبر/ مستير» وأربعين مقاتلة من طراز «مستير/ 4»، بالإضافة إلى ستين طائرة من طراز «فوجا/ ماجستير» تم تسليمها واستخدامها في نفس العملية.
كما أن المطارات المصرية ـ التي تعرضت للقصف في هذه العملية ـ هي على وجه التحديد، وبترتيب قُربها أو بُعدها بالنسبة لقواعد إقلاع الطائرات المهاجمة: مطارات العريش، وبير تمادة والمليز، والسر، وفايد، وكبريت، وأبوصوير، ثم أنشاص، وألماظة، وغرب القاهرة، ثم المنصورة ثم بني سويف، فالأقصر وأخيرًا مطار الغردقة تقريبًا.
وبمقارنة عدد المطارات المطلوب قصفها في عملية «طوق الحمامة» بعدد الطائرات المتاحة ـ خصوصا الطائرات ذات السرعة فوق الصوتية ـ فإن الأمر يخرج تمامًا من نطاق العبقرية أو الإعجاز، ليتحول إلى نتاج طبيعي لشيء اسمه التدريب الجيد، سواء بالنسبة للطيار المقاتل، أو للأجهزة الأرضية المعاونة له، كأطقم الصيانة التي تتولى الكشف الدقيق السريع على الطائرة بين الطلعة والطلعة، والإسراع بإصلاح ما يكون قد لحق بها من أعطال، وأطقم التموين بالوقود، والإمداد بالذخيرة، التي يتوقف على نجاحها أو فشلها في تحقيق سرعات قياسية لتحقيق مهامها المعاونة نجاح أو فشل الطيار في تحقيق العدد المطلوب من الطلعات المتتالية، وهو أمر يعرفه الطيار العادي ـ سواء أكان طيارًا مدنيًّا أم مقاتًلا ـ فضلًا عن خبراء وأساتذة التخطيط الجوي في كل معاهد الاستراتيجية العالمية.
حسني مبارك: السادات وضعنا أمام امتحان «هل إحنا موجودين ولاَّ مش موجودين؟»
ترددت طويلا، عندما تهيأت لكتابة هذا الجزء الخاص من الكتاب تحديدا، على كثرة ما به من أبواب وفصول. مبعث حيرتي وترددي.. هو اختيار المدخل الذي يقدم لأول مرة صورة صادقة وأمينة، لما قام به سلاح الطيران المصري في الساعة «2:05 ـ الثانية وخمس دقائق» من بعد ظهر السادس من أكتوبر العام 1973، عندما نفذ طيارونا المقاتلون الضربة الجوية المصرية المركزة «صِدام» ضد أهداف العدو، فحققوا بدقتهم في تنفيذها، وبانخفاض نسبة الخسائر بين طائراتهم، وارتفاع نسبة إصابتهم للأهداف المعادية، مستويات قياسية جديدة ـ لم يسبقهم إليها أحد في تاريخ الحروب الجوية».
في هذه الحرب أثبت مقاتلونا بنجاحهم الساحق ظهر ذلك اليوم المجيد، أن الطيار المصري المقاتل ليس قادرا على الانتقام من عدوه الطيار الإسرائيلي فحسب، ولكنه قادر على تحقيق انتقامه الجوي، بأعلى قدر من الكفاءة في التخطيط، والإحكام في التنفيذ، بمستوى يجعل من ضرباته الانتقامية مثالا يحتذى به، وقدرة يضرب بها المثل وتجذب اهتمام كبار المحللين وخبراء الحرب الجوية في معاهد الدراسات الاستراتيجية العالمية.
وقفت حائرا أمام المدخل الذي يقودني إلى الحديث المفصل عن الضربة المصرية «صِدام».. مقدماتها وتحليلها العلمي ونتائجها ودلالتها بالنسبة لنا كمصريين، وللأمة العربية جمعاء، وللعدو في النهاية.
ولم يكن مبعث حيرتي هو تشعب الموضوع، ولا كثرة التفاصيل المحيطة بالضربة «صِدام»، ولكن مبعثها، هو ذلك الموقف الفكري الشاذ، الذي وقفه العدو الإسرائيلي من المقاتل المصري بالذات، بصورة تجاوزت الحدود التي يمكن أن يصل إليها عدو في هجومه النفسي والدعائي على مقاتلي خصمه، بحيث ينحدر إلى مستوى لا أخلاقي، أقل ما يوصف به أنه يدل على انحراف واضح في مكونات الفكر العسكري الإسرائيلي بصفة خاصة.
لهذا كان لا بد من كلمة توضح أسرار هذا الموقف الفكري الشاذ، الذي تعرض له المقاتل المصري عموما ـ والمقاتل الجوي خصوصا.. وكلمتي هنا ـ في بداية الحديث عن «صِدام» ـ ليست دفاعا عن المقاتل المصري، لأن هذا المقاتل الشجاع قدم للعالم كله في حرب أكتوبر، دفاعا عمليا عن شرفه وكفاءته وقدراته كمقاتل يشرف الأمة التي أنجبته، ولكن كلمتي هذه هي ـ أولا وأخيرا ـ دفاع عن الحقيقة التي ظلمها العدو، وإنصاف للتاريخ الذي تجنت عليه كل ما كتبه دعاة إسرائيل ومفكروها عن «المقاتل المصري» بالذات، وعن الإنسان المصري عموما.
وإذا كانت هذه الحملة الضارية التي تشنها دعايات العدو ضدنا، قد بلغت قمة كثافتها وتركيزها، عقب النصر السريع الذي حققته إسرائيل في معارك يونيو 1967، فإن الدارس المحقق ـ الذي يتتبع أصول هذه الكراهية العميقة التي يكنها الفكر الصهيوني لمصر والمصريين ـ ترجع إلى عهود موغلة في القدم ولكنها استمرت عبر عصور التاريخ المختلفة.
لقد اقتنع المقاتل الإسرائيلي ـ الوريث المعاصر للفكر المتحجر بكل عقده القديمة ـ بأنه إنسان متفوق، يواجه خصما ـ مصريا ـ متخلفا، ولا جلد له على الحرب، ولا قدرة لديه على استيعاب فنون القتال الحديث. وبسبب الدعاية الإسرائيلية اقتنعت القوى الكبرى ـ ومن ورائها الرأي العام العالمي ـ بأنه لا فائدة من مجرد التعاطف مع العرب، لأن أي محاولة لمساندتهم أو التعاطف معهم، لن تجدي نفعا، أمام ضراوة المقاتل الإسرائيلي المسلح بكل ما هو جديد من فنون الحرب وأدواتها.
وقد أسهمت هذه الحملة النفسية الضارية في غرس صورة ظالمة، وباطلة من أساسها، في نفس الإنسان العربي عموما، تدفع به إلى فقدان الثقة في نفسه، بعد أن يفقد الثقة في المقاتل المصري ـ طليعة القوة العسكرية العربية ـ بحيث ينتهي الأمر بالشعب العربي كله إلى الاستسلام ـ الكامل ـ لمشيئة العسكرية الإسرائيلية، والقبول بكل ما تفرضه على الإنسان العربي من مذلة وهوان.
الأمر اللافت والمثير للسخرية حقا، أن هذه الفلسفة غير الأخلاقية، قد فشلت بالنسبة للرأي العام العالمي، كما فشلت فشلا ذريعا بالنسبة للإنسان العربي عامة ـ والإنسان المصري بصفة خاصة ـ في الوقت الذي نجحت فيه هذه الفلسفة بالنسبة للوجود الإسرائيلي. بحيث تردت به في منزلق الوهم، وأوقعته في مصيدة أحلام كاذبة، ومعايشة الخيال المريض، الذي استيقظ منه الإسرائيلي فزعا، عندما سقطت السماء فوق إسرائيل يوم 6 أكتوبر.
لقد اعترف بذلك «إبراهام كاتزر» ـ رئيس دولة إسرائيل في الحديث الذي وجهه لمواطنيه يوم 24 أكتوبر ـ العام 1973 ـ وكشف به عن بشاعة الأكذوبة التي عاشت إسرائيل في ظلها سنوات، كما فضح به دون قصد، بشاعة الموقف غير الأخلاقي الذي وقفه الفكر الإسرائيلي من العرب عامة، ومن مصر بصفة خاصة، عندما قال بالنص «لقد كنا نعيش فيما بين عامي 1967 و1973، في نشوة لم تكن الظروف تبررها».
وقال : «هذه الحالة النفسية هي المسؤولة عن الأخطاء التي حدثت قبل حرب أكتوبر، وفي الأيام الأولى للحرب، لأنها كانت «قد تفشت» في كل المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية، وأحدثت فيها مواطن ضعف خطيرة يجب على الإسرائيليين جميعا أن يتحملوا مسؤوليتها، وعلينا جميعا أن نتعلم من هذه الحرب الفظيعة؛ أن نكون أكثر تواضعا».
خطبة «إبراهام كاتزر» تقطع بوجود أمرين محددين:
الأول: إن المجتمع الإسرائيلي ـ قبل 6 أكتوبر 1973 ـ كان يعيش في وهم كبير، وعالم خيالي لا صلة له بالواقع.
الثاني: إن هذا الوهم الذي يسيطر على المجتمع الإسرائيلي، عزل هذا المجتمع عن الواقع الذي يمثله حجم إسرائيل وقدراتها الحقيقية، كما عزله عن الواقع العربي الذي كان يتحرك بسرعة هائلة لتصحيح أخطائه والاستفادة من دروس التجربة. وهذا الوهم نفسه هو الذي أدى إلى وقوع الأخطاء القاتلة التي تردى فيها المجتمع الإسرائيلي كله، وانتهى به إلى ما حدث له في 6 أكتوبر.
إن ما حدث في 6 أكتوبر، كان أقوى من كل ما تملكه العسكرية الإسرائيلية من طاقة الكذب والخداع وتضليل الجميع.. والتحليل العلمي الدقيق للضربة المصرية «صِدام» ـ بكل ما نص عليه من حياد وموضوعية ـ ثم.. مقارنتها بعملية «مردخاي هود» ـ «طوق الحمامة» ـ التي نفذها طيارو إسرائيل ضدنا في 5 يونيو.. سيعرف المواطن المصري ـ والإنسان العربي ـ كم تجنت الدعاية الإسرائيلية عليه وعلى مقاتليه الشجعان من طياري سلاح الجو المصري.
كما سيكتشف الرأي العام العالمي، بشاعة الجريمة الأخلاقية التي ارتكبتها العسكرية الإسرائيلية في حق التاريخ الحضاري للإنسان، عندما قامت بأكبر عملية تضليل في التاريخ الحديث، تجاوزت بها كل الحدود المسموح بها في وسائل الحرب الدعائية.
وأخيرا.. سيكتشف الإسرائيلي فظاعة الجريمة التي ارتكبت في حقه، عندما صورت له أبواق دعايته، أنه كائن متفوق حضاريا وممتاز عسكريا، يواجه خصما متخلفا وعاجزا فإذا به يصعق ـ في السادس من أكتوبر 1973 ـ من هول الضربات الساحقة، التي كالها هذا الخصم العملاق.
لن أنسى ما حييت، هذه العبارات التي سمعتها بدمي وأعصابي ـ أكثر مما سمعتها بأذنيّ ـ في إحدى ليالي شهر أكتوبر العام 1972.. على لسان الرئيس أنور السادات.
كان الصمت الذي يخيم علينا جميعا، مهيبا، أمام الموقف الذي كنا نواجهه في تلك الليلة، وأمام الصوت القوي النبرات، الذي أحسست ليلتها أنه يعبر عما في نفسي، ونفس بني وطني جميعا، كان يقول:
«إن شاء الله ربنا يوفقكم.. زي ما قلت لكم.. بأعيد كلامي.. لحظات قدر واتحطينا أمام التحدي.. صعب.. فيه تضحيات وآلام ودم.. ولكن يعلم الله.. أنه مفيش أمامنا حل غيره، يعني حاولت بكل ما أستطيع في السنتين اللي أنا أتوليت فيهم عشان أحاول أخففها ما أمكنش.. وواجهنا الظرف.. والنهاردة زي ما قلت لكم إحنا أمام اختبار قدر..هل إحنا موجودين والاَّ مش موجودين؟ بعد كل اللي عملناه، اللي بنيناه ووفقنا فيه.. هل إحنا موجودين والاَّ مش موجودين؟
«بالنسبة لشعبنا.. بالنسبة للعرب.. بالنسبة لأميركا.. بالنسبة لروسيا صديقتنا.. بالنسبة لغرب أوروبا.. بالنسبة للعالم كله.. هل إحنا موجودين والاّ مش موجودين؟وكفاية سمعنا كلام كتير.. وتجريح كتير.. ولحظة لازم نواجهها.. محكوم علينا من الكل إن إحنا ناس لا قدرة لنا.. خلاص.. مشلولين.. بنقبل هذا.. بنفضل مشلولين.. وحيتحول الشلل إلى عجز مطلق.. نهائي.. ما بنقبلوش.. بنقبل قدرنا، ونخش، ونشتغل على أحسن ما يمكن أن يعطينا العقل اللي ربنا إداه لنا.. والتخطيط السليم.. واستخدام الإمكانات أمثل استخدام، وفي الحدود اللي نستطيع إن إحنا نعمل فيها بعد ذلك.. يفعل الله ما يشاء.. عملنا كل اللي علينا.. وبعد ذلك نواجه قدرنا..
«ماعنديش لكم حاجة أقولها النهاردة غير هذا إطلاقا.. مفيش.. النهاردة مفيش.. لكن واحنا أمام امتحان.. نخش الامتحان.. اللي بارجوه بالنسبة لكم، وبالنسبة لكل الأولاد اللي معاكم.. لازم يكونوا عارفين.. إن إحنا بنعوض نقص كتير بإيماننا بقوتنا.. من استبسالنا.. من استماتتنا بنعوض كتير.. ودي حيكون لها قيمتها إن شاء الله،.. ولن يخذلنا الله سبحانه وتعالى أبدا، ما دمنا مؤمنين، وعلى حق، مش هنخذل أبدا أبدا..
«أنا اللي يهمني في المقام الأول هو بلدي..معروض عليَّ حل جزئي.. معروض فعلا عليّ حل جزئي.. بس أنا مش حاقبله.. وييجي حد غيري يقبله.. أنا بتكويني وبطبيعتي، ما أقبلش حل جزئي، ومازلت مؤمن بالعسكري المصري.. ومؤمن بأننا نستطيع نعمل حاجة.. وأنه أشرف لنا إن إحنا نموت وإحنا واقفين وراسنا في سابع سماء.. عن اننا نتخاذل ونقبل أي حاجة.. وخاصة بعد ما بذلنا كل ما نستطيع وبإخلاص.. وبليالي طويلة مابينامش الإنسان إطلاقا..
الناس كلها مستقرة بره في الصيف وأنا قاعد في المعمورة.. وبالليل.. كنت أقول لابني.. طلعني يا بني بره المعمورة أشم هوا.. وأنا أرجع ما أنامش.. بيانات طويلة.. الشعب طيب.. وأصيل.. واداك اللي عنده.. لحظة ثمنها غالي.. ثمن كبير.. ممكن الواحد ينام طويلا خلاص، وإذا كانت العملية على «الكرسي» نقبل أي حاجة، وندخل في عقول الناس أي تهريج وأي مزايدات وخلاص، أنا ما عملتش هذا أبدا، ولا قيمة للكرسي عندي، إذا ما كانش فيه كرامة.. أبدا.
كان عندي ناس ديك النهار بتكلمني، وقلت والله القرارات.. قرارات 8 يوليو ما تساوي أي شيء.. القرار باكتبه من ثلاثة أسطر لرئيس مجلس الشعب.. يوم ما أحس إني مش كفء، أو يوم ما أحس إن إحنا مش قادرين، أقول لهم.. دوروا على حد تاني يمشِّي، لأني أنا غير كفء إني أمشي في هذه المهمة.. ما بيساوي عندي شيء، ولا بيزود ولا بينقص عليَّ حاجة..
إحنا أمام امتحان قدام شعبنا في المقام الأول.. قدام رجولتنا.. تاريخنا كله.. قدام أجيالنا اللي جاية.. هل إحنا موجودين، والاّ مش موجودين..ربنا يوفقكم.. وشكرا..».
بهذه العبارات التي أنهى بها الرئيس السادات حديثه التاريخي الذي نفذ إلى قلوب الحاضرين جميعا – وهز وجدانهم من الأعماق – انتهى اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي دعينا لحضوره على عجل مساء الرابع والعشرين من أكتوبر العام 1972.
أرجو ألا أكون مبالغا في إحساسي، إذا قلت، إنني شعرت ليلتها بأن حديث القائد الأعلى عن «اختبار القدر الذي نواجهه» وتساؤله ـ الذي أحسسنا جميعا بأنه نابع من وجدانه – حول «إحنا موجودين ولاّ مش موجودين».. ثم إحساسه بالألم وهو يقول «وكفاية سمعنا كلام كتير.. وتجريح كتير.. ولحظة لازم نواجهها.. محكوم علينا من الكل إن إحنا ناس لا قدرة لنا.. خلاص.. مشلولين».. كل هذا.. أحسست بأنه تعبير عن مشاعر الرجال في القوات الجوية، التي تحملت ما لم يتحمله سلاح جوي في العالم من اتهامات ظالمة، أراد العدو بها أن يهز ثقة مصر في سلاحها الجوي، وفي طيارها المقاتل.. بل إن بعض القيادات السابقة – ممن كانوا في موضع المسؤولية أثناء «وقوع هزيمة» 5 يونيو 1967 – لم يتورعوا عن التهجم على قواتنا الجوية، واعتبروها «الشماعة» التي تحمل أخطاء الآخرين، كنوع من الدفاع الهروبي عن أخطائهم الشخصية في تلك العمليات.
أحسست ليلة الرابع والعشرين من أكتوبر 1972 – سواء أثناء الاجتماع أو بعد انتهائه، ثم في بيتي وطوال ليلة مشحونة بالأرق والعواطف والفكر. والشعور الرهيب بضخامة المسؤولية التي تنتظرنا..
.. أوجز السادات المعنى: «إحنا أمام امتحان قدام شعبنا في المقام الأول.. قدام رجولتنا.. تاريخنا كله.. قدام أجيالنا اللي جاية.. هل إحنا موجودين والاّ مش موجودين».
وإذا كان المنطق الجدلي يسمح بوجود أكثر من إجابة للسؤال الواحد، فإن هذا السؤال بالذات لم تكن له إلا إجابة واحدة.. أن نثبت للعالم ولشعبنا المصري – ولأمتنا العربية – أننا موجودون، وأن يعترف العدو الذي طالما تجنى على المقاتل المصري – في البر والبحر والجو – بأن هذا المقاتل موجود بالفعل، وقادر على تدمير خصمه في مواجهة صِدامية دامية.
لقد أصدر القائد الأعلى قراره التاريخي – يوم 8 يوليو ـ كمقدمة حتمية، لإعداد مصري خالص للمعركة، وإذا كانت التفسيرات – وقت صدور القرار – قد تباينت حول دوافعه وأهدافه، فإننا – نحن رجال القوات المسلحة المصرية – لم نتردد لحظة في فَهم المغزى الحقيقي للقرار، الذي أراد أن يحمي شرف العسكرية المصرية، من أي ادعاء قد يتطاول به أحد، ليمس قدرة العقل المصري على التخطيط العسكري، على أعلى مستويات التخطيط القائم على استيعاب فنون الحرب الحديثة، والمعرفة الكاملة بقواعد الفكر العسكري المعاصر.
كنا – في القوات المسلحة على اختلاف أفرعها وأسلحتها ـ توقعنا بعد صدور قرار إنهاء مهمة الخبراء السوفيات، اقتراب موعد المعركة.. إذ بعد ثلاثة أشهر ونصف من صدور القرار دعا السادات إلى عقد اجتماع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليضعنا أمام مسؤوليتنا التاريخية، وأمام قدرنا الذي لا بد من مواجهته، لكي نفي بحق هذا الشعب علينا، بعد أن أعطانا هذا الشعب الطيب الأصيل كل ما أردنا، ولم يبخل علينا بشيء.
في تلك الليلة لم يحدد ساعة الصفر لكنه على الأقل أعطانا الضوء الأخضر، كي نتحرك بسرعة – كلٌّ في مجاله ـ لإعداد خططنا التي ستوضع موضع التنفيذ، عندما تحين اللحظة التاريخية، التي طال بالرجال الشوق للقائها.. بعد أن قضوا حتى تلك الليلة أكثر من ست سنوات في تدريب شاق وإعداد متواصل.. وطال بشعبنا المصري، وأمتنا العربية الصبر في انتظارها.
في تلك الليلة التي لا تنسى سألت نفسي: إذا كانت مهمة قواتنا البرية – عندما تشتعل المعركة – معروفة مقدما، وواضحة المعالم أمام الرجال، الذين عليهم أن يعبروا القناة، ويحطموا الأسطورة التي سماها العدو «خط بارليف» ثم يندفعوا شرقا لكي يدمروا قوات الدعم التعبوي والاستراتيجي التي سيدفع بها العدو إلى الأمام.
وإذا كانت بحريتنا المصرية، تعرف مهامها القتالية والهجومية في المعركة المقبلة، بعد أن مارستها بنجاح ساحق، في العمليات التي دخلتها ضد العدو، سواء بحماية مياهنا الإقليمية، والتسلل الناجح لضرب أهداف العدو البحرية – الثابتة في الموانئ، أو القطع المتحركة في البحر – وكذلك في عمليات المعاونة لباقي أفرع القوات المسلحة، كعمليات المعاونة في الإمداد والإنزال البحري للقوات..
إذن ما الدور الذي يجب أن تقوم به قوات السلاح الجوي المصري، في المعركة، لكي تسترد شرفها العسكري من جهة، وتثبت وجودها المؤثر في العمليات، سواء بالدعم والمعاونة والحماية لقواتنا الزاحفة في الخطوط الأمامية وأهدافنا الحيوية داخل العمق المصري، أو بالعمليات الهجومية المستمرة – طوال العمليات – بحيث تذيق قوات العدو مرارة القصف الجوي المركز، التي تجرعها مقاتلنا البري في عمليات 1956و 1967.
قلت لنفسي : لو كان سلاحنا الجوي، يستعد لدخول المعركة المقبلة، في ظروف عادية، كغيره من الأسلحة الجوية في العالم، لكفاه أن يقوم بالدور التقليدي للقوات الجوية، من طلعات هجومية وقتالية، تحقق للقوات البرية الحماية الجوية اللازمة، وتوفر الدعم اللازم لضرباتها الهجومية على مسرح العمليات.
ولكن سلاحنا الجوي يدخل المعركة، وهو محمل بأوزار ضربتين جويتين – في عاميّ 1956و1967 – خرج على أثرهما من المعركة قبل أن تتاح له فرصة لإثبات وجوده وقدراته..وإذا كان «الدواء من جنس الداء» – كما تقول الحكمة العربية المأثورة – فإن استرداد سلاحنا الجوي لثأره من العدو، ودفاعه عن شرفه العسكري، يجب أن يبدأ من نقطة محددة لا بديل لها، هي الرد على العدو بنفس اللغة.
لقد تعرض هذا السلاح – مرتين – لضربة جوية مركزة، حطمت الجزء الأكبر من طائراته، وهي جاثمة على الأرض، وحرمت الطيار المصري المقاتل من وسيلته الفعالة لإثبات وجوده، وعرضته لأبشع ما يتعرض له مقاتل وهو «التشكيك في شجاعته.. وفي قدرته على مواجهة خصمه، بل التشكيك أصلا في صلاحيته لعبء القتال الجوي». ذلك التشكيك الذي يدمي النفس ويجرح الكرامة، والذي عبر الرئيس القائد الأعلى عن إحساس الرجال به حين قال «وكفاية سمعنا كلام كتير.. وتجريح كتير».
يجب أن يدفع العدو ثمن فعلته.. والثمن الغالي هو – في الوقت نفسه – العلاج الوحيد الذي يشفي جرح الإهانة التي وجهت لنا – نحن رجال السلاح الجوي – بضربة جوية مركزة يقوم بها طيارونا المقاتلون، ضد مطارات العدو ومواقعه العسكرية المؤثرة.. ضربة ذات حجم هائل.. لا نقلد فيها أحدا.. سواء على مستوى التخطيط المحكم، أو التنفيذ الدقيق – ونلقن العدو بها درس العمر، ونعلمه احترام الطيار المصري ونرد لهذا الطيار سمعته، ونعيد إليه مكانته التي هو جدير بها بين شعبه، ووسط قواته المسلحة الأم.
هكذا ولدت الفكرة الأولى.. للضربة «صِدام».. بمعناها وأبعادها وفلسفتها وأهدافها.
في ضوء هذا: ما هي أبعاد العملية «صِدام» التي رد بها طيارونا المقاتلون ردا عمليا حاسما على كل ما وجه إليهم من إهانات، قبل 6 أكتوبر 1973؟ وما المقدمات الأساسية التي تمت دراستها قبل التحضير للعملية ذاتها؟ وما القواعد التي قامت عليها – سواء في التخطيط أو التنفيذ – بحيث تصل إلى تحقيق أهداف معينة لا تزيد عليها ولا تنقص؟ وما هو الجديد، وما التقليدي في العملية من بدايتها كفكرة إلى نهايتها المادية، كضربة جوية مركزة، أحدثت ما أحدثته من دمار على الجانب المعادي، بأدنى قدر من الخسائر في طائراتنا المهاجمة، وبأعلى نسبة من إصابة الأهداف والدمار الذي لحق بالعدو؟ ثم ما الفوارق الأساسية التي تفرق بين «عملية طوق الحمامة» الإسرائيلية وعملية «صِدام» المصرية، وما الميزات الواضحة، سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ، التي تدفع المحلل العسكري – المحايد – إلى الحكم بتفوق العملية المصرية، على العملية الإسرائيلية؟
في بداية تحليلنا للعملية «صِدام» لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق المهمة، التي اعتبرتها قيادة الجو المصرية – وهي بسبيل التخطيط العلمي للعملية – مقدمات أساسية، لا بد من احترامها، والتصرف على أساسها سواء في مرحلة التخطيط النظري البحت للعملية، أو التحضير لها أو التدريب العملي على تنفيذها.
أولى الحقائق التي راعتها قيادة الجو المصرية – في تخطيطها للعملية «صِدام» – هي «تحديد موقفها من العدو الجوي» موضوعيا، يصل إلى حد الصرامة في واقعيته، دون تهوين أمر هذا العدو أو انتقاص من قدراته الحقيقية، ودون تهويل أو مبالغة في تقدير ما يملكه العدو من عتاد وخبرة قتالية.
ميزة هذه الموضوعية في تقدير قوة العدو، أنها تحمي واضع الخطة أولاً، من الانسياق وراء أحلام يقظة كاذبة، قد يرتفع بها الغرور وخداع النفس، إلى مستوى الحقيقة الواقعة، الأمر الذي يدفع المخطط إلى منزلق بالغ الخطورة.. يؤدي به إلى بناء خطته على أساس غير حقيقي، بحيث تنتهي الخطة عند وضعها موضع التنفيذ على مسرح العمليات إلى كارثة قومية، إذا كان قد استهان بقوة الخصم، أو إلى تجميد قواته الجوية، إذا كان قد بالغ في تقدير قوة عدوه الجوي.
كما أن الموضوعية في وزن قدرات العدو الجوي، تحمي الطيار المقاتل الذي يعهد إليه بتنفيذ الخطة، من المفاجآت غير المحسوبة، التي تعرض الطيار لصدمة نفسية خطيرة، حين يكتشف أن قيادته قد ضللته – بالجهل أو بالخديعة – عن حقيقة عدوه، فضلا عما يتعرض له الطيار بسبب المفاجآت غير المحسوبة من كمائن جوية، أو غيرها من مخاطر الحرب الجوية غير المدروسة.
من هذه الحقيقة الأساسية، تحركت قيادة الجو المصرية – وهي تخطط للعملية «صِدام» – على أساس أن الطيار المصري المقاتل، سيواجه عدوا مدربا تدريبا جيدا، ووراءه رصيد من الخبرة والممارسة القتالية – سواء في عمليات 5 يونيو، أو ما تلاها من عمليات قام بها العدو طوال مراحل «الصمود» و«الردع» و«الاستنزاف» التي سبقت 6 أكتوبر.
بالإضافة إلى ذلك هناك حقيقة ما يملكه العدو من إمكانات عالية المستوى في العتاد والسلاح الجوي، تجعل الطيار الإسرائيلي مزودًا – من الناحية النفسية على الأقل – بكفاءة معنوية عالية، يمده بها إحساسه بالاطمئنان الكامل إلى طائرته وإمكاناتها العالية، كما أن خروج سلاح الجو الإسرائيلي سليما – في عمليات العدوان الثلاثي العام 1956 – وانتصاره السريع في عمليات 5 يونيو 1967، من العوامل التي تزيد من ثقة الطيار الإسرائيلي بنفسه.. وكلها عوامل قدرتها قيادة الجو المصرية حق قدرها، وهي تخطط لعملية «صِدام».
صحيح أن سلاح الجو المصري كان – قبيل السادس من أكتوبر – قد انتقل إلى مرحلة، تعتبر بالمقاييس العسكرية السليمة، مناقضة تماما، لما كان عليه السلاح نفسه العام 1967، سواء من حيث التنظيم العام لهيكل السلاح وأجهزته ووحداته، أو من حيث الأسلوب العلمي الذي يدور به العمل تخطيطا وتدريبا.. ولكن هذا المستوى المرتفع الذي حققه سلاحنا الجوي، لم يدفع بقيادته إلى الوقوع في مصيدة الغرور، ومركب العظمة، أو تجاهل حقيقة الخصم، وما يملكه من قدرات.
هذه الواقعية في النظرة إلى العدو ـ التي تمثل أعلى مستويات الصدق مع النفس – هي التي حمت الطيار المصري المقاتل – ظهر السادس من أكتوبر – من التعرض لمفاجآت غير محسوبة، وهي التي ضمنت لسلاحنا الجوي، الاستمرار في القيام بواجباته القتالية والهجومية، طوال أيام المعارك، بحيث كانت قواتنا الجوية – كما قال الفريق أول محمد عبدالغني الجمسي القائد العام للقوات المسلحة ونائب رئيس الوزراء ووزير الحربية – «هي التي بدأت الحرب وهي التي أنهتها».
بمقتضى القواعد السليمة للفكر العسكري، فإن واقعية المخطط في نظرته للعدو وتقييمه لقدراته القتالية، تؤدي بالضرورة إلى الواقعية في تحديد «أهداف العملية» التي يخطط لها، بحيث لا يندفع واضع الخطة، وراء أهداف جنونية، قد تبدو براقة ومغرية، ولكن الاستسلام لبريقها الخداع، يحمل في ثناياه مخاطر الوقوع في كارثة مدمرة.
هنا يبرز الفارق الأول بين موضوعية العملية المصرية «صِدام» – في نظرتها للعدو الإسرائيلي – وبين جنون عملية «طوق الحمامة» الإسرائيلية واستهتار مخططها العام 67 ـ ويكفي أن نسأل الجنرال «هود».. ما هو المصير الذي كان سيلاقيه طياروك في 5 يونيو، لو أن قيادة الجو المصرية، أجرت تعديلا واحدا مفاجئا، على الأسس التي بنيت عليها خطتك كلها؟
وعلى سبيل المثال.. ما الذي كان سيحدث صباح الاثنين 5 يونيو، لو أن سلاح الجو المصري تخلص – في ذلك اليوم – من نظرية «أول ضوء» التي تحدد ساعات الخطر الجوي المعادي، بالفترة الواقعة بين شروق الشمس وبين التاسعة صباحا، وقد كانت هناك أصوات مصرية تنادي بهذا التعديل..؟.. وما موقف طياريك عندما يصدمون بوجود مظلة حماية جوية – من طائراتنا المقاتلة – تتصدى لهم بنيرانها، قبل أن يصلوا إلى المطارات المصرية؟
والإجابة معروفة مقدما.. لو أن قيادة الجو المصرية، أقدمت على إجراء هذا التعديل الوحيد في خطتها الدفاعية، لانهارت عملية «طوق الحمامة» من أساسها، ولتحولت الضربة المكثفة التي تلقاها الطيران المصري – صباح 5 يونيو – إلى مطرقة هائلة تدق رأس الجنرال «هود»، وتسحق طياريه الذين قاموا بتنفيذ عملية بنيت على مخالفة صارخة لمبدأ مهم من أخطر مبادئ التخطيط القتالي، وهو «الموضوعية في تقدير قوة العدو».
مثال آخر على عدم الموضوعية في تقدير قوة الخصم، التي اتسمت بها خطة الجنرال «هود»، وهو أنه بنى خطته أساسا على افتراض نظري بحت؛ وهو أن سلاح الجو المصري لا يملك – في العام 1967 – أجهزة رادار تعمل في الطبقات المنخفضة، وبالتالي وضع خطته على أساس اقتراب طائراته من أهدافه وهي تطير على ارتفاعات منخفضة، وإذا كان الحظ الحسن وحده، قد لعب دوره في هذا الجانب، ونفذت عملية «طوق الحمامة» دون أن تنجح شبكة الرادار المصرية – ذات النبضات العالية الارتفاع – في اكتشاف الطائرات الإسرائيلية، فما المصير الذي كان ينتظر هذه الطائرات، لو أن سلاح الجو المصري، كان قد حصل – بطريقة سرية -على شبكة رادار ذات نبضات قادرة على العمل في الارتفاعات المنخفضة؟
وبعكس هذا الاستهتار الكامل بالعدو – الذي يتجلى كعيب واضح يدين واضع خطة «طوق الحمامة» الإسرائيلية – نجد العملية المصرية «صِدام» تنطلق من أساس موضوعي في نظرتها للعدو وقدراته الحقيقية، بحيث تتجه إلى تحقيق أهداف محددة – سنتعرض لها بالتفصيل – دون أن تتجاوز هذه الأهداف إلى مغامرات جنونية قد يدفع إليها الاغترار بالنفس، أو تجاهل قدرات الخصم، حتى في أثناء التخطيط لتفاصيل العملية «صِدام» نجد العدد الذي قام بتنفيذها من طائراتنا – وهو اثنتان وعشرون ومائتا طائرة من مختلف الأنواع – فضلا عن طائرات الحماية والاعتراض، يشير إلى أن المخطط الجوي المصري، وضع في حساباته الدقيقة، كل احتمالات المخاطر المفاجئة التي يمكن أن تتعرض لها العمليات أثناء التنفيذ، سواء من حيث وسائل الإنذار المعادي المبكر – التي يملك العدو أحدث أنواعها – أو من حيث وسائل الدفاع الجوي الثابتة والمتحركة.
هذا الحساب الدقيق للمخاطر والمفاجآت المحتملة من جانب العدو – الذي لم نتجاهل ما عنده من وسائل وإمكانات وخبرة – هو الذي أدى إلى نجاح الطائرات المصرية في تنفيذ ضربتها المركزة «صِدام»، وعجز العدو عن التصدي لهذا العدد المخيف من الطائرات – الذي لم يسبق أن اشترك مثله في عملية هجومية واحدة – بل إن كثافة عدد الطائرات المصرية المغيرة – فضلا عن قدرتها على إحداث أكبر قدر من التدمير للعدو بسرعة وفي وقت واحد – أدت أيضا إلى نتيجة رائعة كانت محسوبة تماما، وهي إصابة طياري العدو بالفزع والرعب، وهم يشاهدون سلاحنا الجوي يهاجمهم بهذه الكثافة والإصرار، الأمر الذي أدى إلى اهتزاز ثقتهم بقيادتهم التي خدعتهم طويلا، وهونت لهم كثيرا من أمر سلاح الجو المصري وأمر طياريه.
رد الفعل الطبيعي لمثل هذه الصدمة النفسية – كما تؤكد أبحاث علم النفس الحربي – هو انخفاض الكفاءة النفسية للطيار المقاتل وما يتبعه من انخفاض قدراته القتالية وهبوط مستواه وعجزه عن التحكم في طائرته والاستفادة من إمكاناتها العالية.. وهو ما حدث بالفعل في الساعة الثانية وخمس دقائق من بعد ظهر 6 أكتوبر بالنسبة للطيارين الإسرائيليين، الذين فكروا – بعد فوات الأوان – في القيام بعمليات التصدي المهزوزة لطيارينا أثناء تنفيذ العملية «صِدام».
بنفس الموضوعية التي نظرنا بها للطيار الإسرائيلي – قبل 6 أكتوبر – نقرر الآن، وبحيادية مطلقة، أن ضعف هذا الطيار الذي بدا واضحا أمام طيارينا، وعجزه عن التصدي لنا في ذلك اليوم، لم يكن مرجعه إلى عدم خبرة طياري سلاح الجو الإسرائيلي، أو هبوط مستواهم التدريبي والقتالي بوجه عام.. ولكن هذا الضعف الذي اعترف به الجميع يرجع إلى تجاهل العدو لقدرات طيارينا – ذلك التجاهل الذي استمر سنوات – كما يرجع إلى موضوعية قيادة الجو المصرية في تقديرها للقدرات الحقيقية للعدو، واستعدادها الجيد، لما تفرضه عليها معرفتها الموضوعية بهذا العدو.
ببساطة شديدة: كان العدو مغرورا بنفسه، مستهينا بنا..وكنا واثقين من أنفسنا، وعارفين بقدرة العدو، مؤمنين بأنه أشرف لنا – في ساحة العمليات – أن ننتصر على عدو ذي خبرة وإمكانات، ونعد للنصر عليه ما استطعنا، من أن ننتصر دون جهد، على عدو مستضعف بلا حول ولا طول.
أما الحقيقة الثانية التي وضعتها قيادة الجو المصرية – وهي بسبيل وضع الخطة «صِدام» – فهي توقع «المفاجآت» من العدو، احتراما من هذه القيادة، لمبدأ «إن العدو عنده دائما ما يخفيه»، وضمانا للوصول بالخطة المصرية، إلى تحقيق الهدف المحدد لها، حتى لو تعرض التنفيذ لأي مفاجآت يكون العدو قد أحكم إخفاءها في الفترة السابقة للعمليات، وما يمكن أن ينتج عن هذه المفاجآت، من تعويق ولو جزئي لأهداف الضربة الجوية.
أكشف الآن واحدا من أسرار التخطيط الشامل لحرب أكتوبر 1973 – بوجه عام – والتخطيط للقوات الجوية – بوجه خاص – التي كان قد تقرر على مستوى القيادة العليا، أن تكون الضربة الجوية المركزة التي تقوم بها، هي الضربة الأولى والأساسية، التي تشتعل بعدها الجبهة، ويندفع الرجال لعبور القناة، والالتحام بالعدو المتحصن في دشم ومواقع خط بارليف.
هذا السر الذي أكشفه الآن، يقدم الدليل الحاسم، على أن المخطط الجوي المصري – أثناء وضعه لتفاصيل العملية «صِدام» – كان واقعيا إلى أبعد الحدود، وصادقا تماما – سواء مع نفسه، في حدود بمعرفته بإمكانات سلاحه الجوي، أو مع معرفته الدقيقة بما يتمتع به العدو من ظروف مواتية.. من هذه الواقعية.. ولكي أفصح عن هذا السر بطريقة منطقية متراتبة.. فإنني أحدد خطوات خطة ضربتنا وكيف تم رسمها وتوقع احتمالاتها:
1- في الموعد المحدد لبدء العملية «صِدام» – أي الساعة 2.05 – تندفع الطائرات المصرية، المكلفة بالمهمة، شرقا، وتخترق خط الجبهة، حيث تقوم – وفي وقت واحد، تم حسابه بالثانية – بقصف مركز للأهداف والمواقع المعادية، التي رؤي – سواء على مستوى التخطيط المتخصص للقوات الجوية، أو على مستوى التخطيط الشامل لقواتنا المسلحة كلها ـ أنه لا بد من تدميرها، وإسكاتها تماما، قبل اندلاع الحرب، حتى نوفر لقواتنا التي ستعبر القناة بعد نجاح الضربة الجوية، أقصى ما يمكن توفيره، من ضمانات الأمن، وعدم التعويق المؤثر لمجهودها الرئيس في العمليات.
أستطيع أن أؤكد أن التخطيط لهذه الضربة الجوية، قد تم بعناية شاملة، وأن الدراسات التي توفرت للمخطط الجوي المصري، شملت كل ما يتصل بالعملية على الجانبين المصري والإسرائيلي، بحيث تتوافر للخطة – وللطيار المصري المقاتل الذي سيكلف بتنفيذها – أقصى ضمانات النجاح.
لو أن المخطط الجوي المصري، اكتفى بهذا الجهد الشاق، الذي بذله في دراسة كل ما يتصل بالضربة الجوية التي يخطط لها بعناية – تبلغ حد الحذر والتدقيق الصارم في كل شيء – لما كان هناك ما قد يؤخذ عليه، ولجاز له أن يعلن – بينه وبين نفسه على الأقل – أنه قام بواجبه على الوجه الأكمل، في وضع خطة محكمة الإعداد.
وهنا ينكشف السر الذي أشرت إليه، وهو أن المخطط الجوي المصري، وضع في حساباته الدقيقة، احتمال نجاح العدو في استخدام ما قد يكون عنده من إمكانات غير معروفة لنا، بحيث يتمكن من امتصاص جزء كبير من تأثير الضربة الجوية التي سنوجهها لمواقعه وأهدافه المؤثرة، في الساعة 2.05 بعد ظهر السادس من أكتوبر..وفي مواجهة هذا الاحتمال، بادر واضع الخطة المصرية، إلى التفكير في الحل السريع الذي يضمن تحقيق أهداف الضربة الجوية بأعلى نسبة من إصابة الأهداف، وبأقل قدر من الخسائر بين طائراتنا، وهذا الحل الذي نزيح الستار عنه الآن، يتمثل في ما يلي:
2- أن تقوم قواتنا الجوية – في تمام الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر 6 أكتوبر – أي بعد مرور نحو الساعتين والنصف، بتوجيه ضربة جوية ثانية، بنفس المستوى العالي من التركيز، وعلى الأهداف نفسها التي تم قصفها في الضربة الأولى.
أهمية الحل الذي فكر فيه المخطط الجوي المصري، لمواجهة أي تعويق من العدو لأهداف الضربة الأولى، تكمن في توضيح الحقائق التي تؤكد صحتها قواعد القتال الجوي الحديث، والتي كانت موضع احترام من المخطط الجوي المصري، وهي:
أولاً: إنه في حالة نجاح العدو الإسرائيلي، في تعويق المجهود الرئيس للضربة الجوية الأولى التي ستقوم بها طائراتنا – الساعة 2.05 – فإن طيارينا المقاتلين، الذين سيشتركون في العمليات الأولى، سيكتشفون الوسائل والإمكانات التي استخدمها العدو في مقاومته لهم، وبالتالي، فإن الضربة الثانية، ستتم، وقد انكشف تكتيك العدو، وأزيح الستار عما كان يخفيه من أساليب قتالية أو إمكانات مستحدثة، الأمر الذي يضعف من تأثير هذه الأساليب المستحدثة – إن وجدت – لأن الطيار المصري المقاتل، عند قيامه بتوجيه الضربة الجوية الثانية، سيكون عارفا بما عند العدو، واثقا من قدرته على التعامل معه، بعد أن زال عنه عنصر المفاجأة، الذي يمكن أن يكون له في وجود الضربة الأولى.
ثانيًا: إن قصر المساحة الزمنية التي تفصل بين الوقت المحدد للضربة الأولى، ووقت توجيه الضربة الثانية، لا يسمح للعدو بالتقاط أنفاسه، وإعادة أهدافه التي أصيبت في الضربة الأولى – أو دُمرت – إلى مستوى الصلاحية المؤثر في مقاومة الضربة الثانية، فضلا عن أن القوات الميدانية العاملة في الواقع التي دمرت – أو أصيبت – في الضربة الأولى، تكون كفاءتهم النفسية، قد هبطت بشكل فعال، يؤثر على كفاءتهم القتالية، التي لن تسعفهم في مقاومة الضربة الثانية.
ثالثًا: إنه في حالة نجاح العدو في امتصاص الجزء الأكبر، من الآثار التدميرية التي أحدثتها الضربة المركزة الأولى، فالأمر المؤكد، أن الجانب الأكبر من اهتمامات العدو، عقب تلقيه لهذه الضربة المفاجئة، وبالكثافة التي تمت بها، سيتجه إلى محاولة إصلاح ما أعطب أو أصيب من أجهزته وعتاده – إن كانت هناك إمكانية لإصلاحه – ومعنى هذا، أن العدو، سيكون مشغولا طوال هذه الفترة في محاولة حصر الخسائر، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من أعطاب، ولن يتجه بمجهوده الرئيس إلى محاولة الرد بضربة جوية انتقامية، قبل الاطمئنان إلى سلامة موقفه، والعودة بهذا الموقف إلى ما هو قريب من المستوى السابق للضربة التي تلقاها.
هنا تتضح للمحلل العسكري، أهمية توجيه الضربة الثانية، التي ستضمن تحقيق النتائج التالية:
1- استمرار التصاعد في الخط البياني، الذي يمثل تدمير أهداف العدو، بحيث نصل بهذا الخط، إلى أقصى نقطة ممكنة، تمثل الهدف النهائي لخطة العملية «صِدام».
2- حرمان العدو من الهدوء الذي قد يساعده على استعواض ما خسره من عتاد ومقاتلين، أو إصلاح ما أعطب من أجهزته ومنشآته نتيجة للضربة الأولى.
3- منع طيران العدو من استخدام المطارات القريبة، في توجيه ضربة انتقامية، سواء ضد قواتنا الزاحفة، أو ضد أهدافنا العسكرية أو المدنية.
4- توفير الحماية اللازمة لقواتنا البرية، في ساعات العبور الأولى، وذلك بمنع طيران العدو، الذي دمرت – أو أعطبت – مطاراته القريبة، ومواقعه المؤثرة، من القيام بأي عمليات هجومية، تعوق المجهود الرئيس لهذه القوات، خصوصا في لحظات إنشاء رؤوس الكباري وتأمينها، التي تعتبر أخطر مراحل العبور.
هكذا يكشف لنا هذا السر أن قيادة الجو المصرية، وهي تخطط للعملية «صِدام» كانت مصممة على أن تحقق هذه العملية أهدافها على أعلى مستوى، ولكي تضمن القيادة المصرية هذه النتيجة، فقد خططت للقيام بضربتين جويتين مركزيتين – لا يفصل بينهما سوى ساعتين ونصف الساعة فقط – بحيث تؤدي الضربة الثانية إلى تحقيق أهداف العملية «صِدام» تحقيقا كاملا.
وإذا كانت الضربة الأولى قد نجحت في تحقيق الأهداف المطلوبة نجاحا ساحقا، أدى إلى الاستغناء عن توجيه الضربة المركزة الثانية التي كانت موضوعة في الخطة، فإن هذا النجاح نفسه، يعطينا المؤشر الصادق، والدليل الحاسم، على سلامة العملية «صِدام» والمستوى الرفيع الذي حققه الإنسان المصري في هذه العملية، سواء كمخطط عسكري متمكن من فنه، أو كطيار مقاتل يتمتع بخبرة عالية، وروح معنوية قوية وقدرات قتالية مرتفعة تضعه على قدم المساواة، مع أحدث طياري العالم المقاتلين.
ترى ما رأي جنرال الجو الإسرائيلي «مردخاي هود» صاحب عملية «طوق الحمامة» – التي كادت العسكرية الإسرائيلية أن تفرضها على التاريخ العسكري، باعتبارها خطة إسرائيلية، وهي لا تعدو في حقيقتها، أن تكون نسخة مقلدة من الأصل الإنجلوفرنسي، الذي نفذ ضدنا عام 1956 -.. ترى ما رأي الجنرال «هود»، في هذا التمهيد العلمي الدقيق، الذي اعتبره المخطط الجوي المصري نقطة البداية الأولى، في إعداده لخطة الضربة الجوية المصرية «صِدام».
وما رأي «مردخاي هود» – ومن ورائه كل جنرالات الجو الإسرائيليين، وكل صقور المؤسسة العسكرية الإسرائيلية – في ذكاء المخطط الجوي المصري، وفي قدرته الواضحة، على الاستفادة إلى أقصى حد، من نظريات وقواعد القتال الجوي الحديث، لكي يضمن لخطته الهجومية، أكبر قدر من النجاح، ويوفر لطياريه – عن طريق الدراسة الجادة – كل ما يستطيع توفيره من ضمانات، ضد المفاجآت غير المحسوبة، وعمليات الإجهاض المضاد، التي تعوق الضربة المصرية، وتنحرف بمجهودها الرئيس عن أهدافه الأساسية.
ألا يعتبر «الجنرال هود» كل هذا، دعوة – غير مباشرة – للفكر، يوجهها الطيار المصري المقاتل – الذي أعيدت صياغته على أحدث ما تكون صياغة وإعداد الطيار المقاتل – لكي يفيق خصومه من أحلام اليقظة الكاذبة، التي نعترف بأنها أفادتنا كثيرا، لأنها ساعدتنا على العمل في صمت، ولسنوات طوال، كان العدو فيها مشغولا في اجترار إحساسه البالغ فيه بالنصر، وكنا منصرفين خلالها، إلى العمل والتدريب والإعداد، حتى وصلنا إلى اللحظة التي أقسمنا – عام 1967 – على الوصول إليها، مهما كان الثمن، ومهما كانت التضحية.. وظهر السادس من أكتوبر، حلت اللحظة المرتقبة.. لحظة فرض الإرادة الجوية المصرية على مسرح العمليات.
وإذا كان التمهيد المبدئي لخطة العملية «صِدام» قد راعى العلمية، واحترام المبادئ الأساسية للفكر العسكري، فما تفاصيل العملية ذاتها، وما الإضافات التي قدمتها هذه الخطة المصرية الخالصة، للفكر العسكري، وفن التخطيط القتالي في الحرب الجوية.
إن الفصول التالية تجيب عن كل هذه الأسئلة، وتكشف في الوقت نفسه ـ وبوضوح لا يحتمل التأويل أو التفسير – عن المصير الذي ينتظر أي محاولة طائشة قد يفكر العدو الجوي في الإقدام عليها، سواء ضد قواعدنا الجوية ومطاراتنا، أو ضد مواقع قواتنا المسلحة بوجه خاص.. أو ضد أهدافنا الحيوية في امتداد العمق المصري بوجه عام.
وهذا المصير الذي نعنيه – والذي ينتظر أي مغامرة جنونية قد يفكر العدو في الإقدام عليها، تقليدا لما حدث في 5 يونيو 1967 – ليس مصيرا افتراضيا، مبعثه الوهم.. ولكن المصير المحتوم سيكون نتيجة حتمية لما يستطيع سلاحنا الجوي أن يصنعه بعدوه – جوا وبرا وبحرا – بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من مستوى بالغ الارتفاع، كسلاح جوي بالغ العصرية على جميع مستويات التخطيط، والتنظيم، والإعداد، والتدريب، ذلك المستوى الذي تفصح عنه التفاصيل «العملية.. صِدام».
قم بكتابة اول تعليق