خمد الحراك السياسي المعارض في الكويت – أو أخذ إجازة مفتوحة – في وقت متزامن مع خمود ثورات الربيع العربي وانتكاساتها بفضل بركات المال النفطي وغياب قيادة واضحة الرؤية وذات منهج ثابت ينطلق من تراث أكيد لقوى المجتمع المدني. فإذا كانت نيران المعارضة الكويتية وتجمعاتها واعتصاماتها السلمية التي أطلقت شرارتها، وتأججت نيرانها، قبل عامين إثر فضيحة “الإيداعات المليونية”، وهو العنوان المهذب لرشا كاملة الدسم من السلطة الثرية لعدد من نواب مجلس 2009، انتهت بحفظ التحقيق فيها للقصور التشريعي كما جاء في مذكرة النيابة، فإن الحراك المعارض الذي كان يهز شوارع العاصمة والضواحي السكنية في تلك الأيام الجميلة يقف اليوم منتظراً دوره للتحقيق عند غرف النيابة العامة، أو يبحث رموز ذلك التيار عن أسمائهم في رول القضايا الجزائية المتداولة أمام غرف المحاكم بقصر العدل.
لماذا انتهى الحال بالمعارضة إلى هذه الصورة البائسة التي تمنتها وعملت من أجلها مجاميع الحلقات الانتهازية التي تدور في فلك السلطة، مع ما رافق تلك الأمنيات الخائبة من عمليات قمع شديدة على يد السلطة وملاحقات قضائية لا تكلّ ولا تهدأ! لا جديد في الجواب السريع المتمثل في غياب الرؤية الموحدة لرموز المعارضة واختلافاتها في تحديد مطالبها وما صاحب ذلك من سياسة العصا والجزرة للسلطة في خنق المعارضة، فنجد، مثلاً، أن بعض شيوخ القبائل – والكويت دولة قبلية من ألفها إلى يائها رغم مرور أكثر من خمسين سنة منذ حصولها على لقب “دولة” بدستور ديكوري- لم يجدوا حرجاً في التراجع عن مواقف متشددة صلبة ضد ممارسات السلطة وانقلب حالهم، سريعاً، مع “جزرة” السلطة، وأضحوا أقرب المقربين إليها بين عشية وضحاها، وعاصر ذلك أيضاً هدايا وعطايا بإعفاءات ومنح مالية لعموم الشعب، بينما كانت “عصي” القوات الخاصة تهرول خلف تجمعات المعارضين وعصا التشريعات الاستبدادية تقتفي آثار أقدامهم، تحاسبهم (حسب القانون) على ما تحدثوا وصرحوا به، وما تحتمله ألفاظهم من تفاسير تدين أصحابها وتودعهم زنازين الدولة إلى أجل غير معلوم.
هل يمكن عزل ما حدث في الكويت عن الدائرة العربية الأوسع والأكثر حراكاً وقمعاً في الوقت ذاته؟ يسأل الباحثان ميلاني كاميت وإسحاق ديوان في شهرية “لوموند دبلوماتيك” عدد أكتوبر: لماذا بدأ الربيع العربي في 2010؟ ويقرران أن “الاستياء الشعبي الذي أدى إلى الانتفاضات يمكن إرجاعه إلى عنصرين رئيسيين، تراجع دولة الرفاه، وتوطيد العلاقات الوثيقة بين الدولة وعناصر معينة من نخبة رجال الأعمال”. ويمضي الباحثان في تحليل ظواهر “جمال وعلاء مبارك، وعائلة زين العابدين والطرابلسي” وعوالم المحسوبية والفساد حين يختلط الحكم والتجارة، وتلتحم أنظمة الحكم مع أصحاب البيزنس.
إذا كانت هذه هي الأسباب المباشرة للربيع العربي، فهي الأسباب ذاتها التي تساهم اليوم في إخماد جذوة هذا الربيع وتحقق بعض الانتصارات هنا وهناك، ورافق تلك الأسباب أمراض مستعصية في الجسد العربي القبلي، مثل انكشاف واقع غياب الهوية الجامعة للشعوب العربية بمعنى شعور الانتماء إلى الدولة الأمة ووحدة الدولة العربية، وصاحَب ذلك بعث جديد لروح القبلية والطائفية الدينية، ففي مصر، رغم أنها دولة لا يخشى عليها التفتت بسبب عمق الهوية المصرية تاريخياً، فإنها وقعت مع بعض أخطاء اجتهادات “الإخوان” فريسة لقوى الدولة العميقة الضاربة في الفساد، وكان هناك أيضاً المال المتدفق من الخارج لقلب مركز التغيير للعالم العربي، وكان انقلاب مصر الأخير.
وخارج مصر كان التغيير الرجعي والتراجع عن الربيع يتجسدان في تقرير الفشل للدولة الليبية وتفتتها مناطقياً تحت إمرة عصابات مسلحة ادّعت شرف الإطاحة بالعقيد، وفي العراق تفتت الدولة أولاً بنظام المحاصصة والمحسوبيات الطائفية، وثانياً بالتفجيرات الانتحارية، وأضحت الدولة مجالس عزاء دائمة، ثم هناك سورية، وتشرذم المقاومة السورية، كنتيجة حتمية لانكشاف تشرذم المجتمع السوري ذاته، وضياع أولويتَي الكرامة والحرية للشعب السوري بإحلال دولة الخلافة في الأرض السورية مكانهما، وإزاحة واقع اللاجئين المأساوي جانباً.
الطريق إلى التغيير مازال طويلاً، واحتمالات إعادة تشكيل الدول العربية بحدود ودول جديدة يطرح نفسه بشدة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يبقى أن يقر حكام اليوم، الذين لم تهزهم رياح “الربيع”، ويقتنعوا تماماً بأن موت أي معارضة سلمية في أي دولة لا يعني غير إعلان وفاة الدولة ذاتها، فلننتظر القادم من الأيام.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق