فاضل خلف: ملهمات شاعر الأطلال

لم يكن في حياتنا أكثر من فتيات يقمن بالتمثيل ويحترفن الطرب والغناء، أما بالنسبة لعالم الشاعر الدكتور ابراهيم ناجي الشعري فقد كن عرائس الأحلام أو حوريات القباب الزرقاء المتوارية خلف الغمائم البيضاء.
لم يمتد عمر العاشق الولهان الذي مات – حباً – أكثر من أربعة وخمسين عاماً، حيث وفد الينا من وادي عبقر في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر 1898 ولبى نداء ربه في الرابع والعشرين من شهر مارس 1953.
لقد عاش الطبيب ابراهيم ناجي خلال سنوات حياته بجناحين رقيقين يتنقل في عشوائية حائرة من فن الى آخر باحثاً عن زهرته المنشودة، وكان كلما ظن أنه قد دنا منها وهم باقتطافها أبعده الوهم أكثر مما دنا، متصوراً أنها ليست هي التي نسجها له خياله، واذا سألنا أنفسنا من هي تلك المرأة التي يريدها الشاعر؟ فيجب علينا ان نتخيل غادة مرفرفة في محرابها العلوي، سامية الصفات، ملائكية الملامح، بعيدة كل البعد عن صفات البشر، المترعة بالنقائض، الجالبة للمنغصات.
والحق ان ناجي كان في بعض الأحيان يتمتم أمام المرآة: «والله انك لشاعر مجنون»، ويصرخ في الزجاج المصقول قائلاً:

ضل في الأرض الذي ينشد أبناء السماء
أي روحانية من طين وماء

لا نفهم من هذا الا معنى التمرد على الصورة النسائية التي ظل ينشدها ولم يجدها الا في خياله ولأنها لم تتجسد له بعد ! اذن فهو حائر ومعذب وسيتحول تمرده هذا الى احدى الفقاعات التي تتلاشى أمام عينيه، ومن ثم سيقيد نفسه من جديد بغل قسري الى ان تتجسد أمام عينيه مليكة أحلامه.
لم يرحم القدر ابراهيم ناجي في صباه، فقد فتح مخيلته الغضة على روايات الكاتب الانجليزي شارل ديكنز حيث تعلق بروايته (ديفيد كوبر فيلد) أيما تعلق، ولم يفته التعرف على جنون ديكنز الغرامي بفتاته (دورا)، ولأنه لا يقل خيالاً عن خيال ديكنز، فلماذا لا تكون له أيضاً فتاة مثل دورا فاستجاب له القدر وساق اليه احدى قريباته، فكانت له «دوراه» أسوة بديكنز وكان يناديها كما كان ديكنز ينادي دوراه (بيا وجودي العزيز).
وللأسف لم تكن دورا ناجي كدورا ديكنز، اذ إنها لم تتجاوب مع عاطفته تجاهها، وما فكرت في ري ظمئه لحظة من الزمان، بل كانت تزيد من ظمئه ظمأ.
نما حبه وأصبح قادراً على اصطحاب الشاعر في رحلة الحياة، يشعل له جذوره الخيال متى أراد ان يبدع، وفي مرة من المرات رأى أصدق المقربين اليه دمعتين عالقتين بأهدابه فسأله فأجاب:

لمَ عدنا؟ أو لم نطو الغرام
وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام
وانتهينا لفراغ كالعدم
أيها الوكر اذا طار الأليف
لا يرى الآخر معنى للسماء
ويرى الأيام صفراً كالخريف
نائحات كرياح الصحراء

فعلم صاحبه ان شاغلة الفؤاد قد تزوجت، وأصبحت لها حياتها الخاصة، والشاعر لا يستطيع ان يمحو صورتها من ذاكرته بدليل أنه توجع بتلك الأبيات.
تزوج الشاعر الطبيب من السيدة سامية ابنة اللواء محمد سامي محافظ القاهرة عام 1927 ليبتعد عن الدوامة التي أخذ يتقلب في تيارها بلا طائل، ولخوفه على نفسه من ان ينفيه الاحساس بالضياع الى دنيا العدم، كتب لزوجته قصيدتين رقيقتين يصور فيهما حبه لها وكان لا يخدع الا نفسه لأن مثله المنشود ظل ماثلاً أمامه، وليس عنده غير أطياف الحرمان التي تزيده ظمأ على ظمأ.
ابراهيم ناجي الذي عاش للحب والحياة وتغنت له أم كلثوم برائعته الأطلال، لم يكن أمامه بد من الانطلاق كالسهم المارق ليرتوي من الحب بأي أسلوب كان، المهم ألا يرضى بالضياع بل يعب من متع الحياة ما يجوز لشاعر في مثل رقته وابداعه.
ولكن لسوء الحظ استعذب الأخلاء للحقل الفني ظمآن أنه سيجد الخصوبة في ذلك الأخلاء، وسيرتوي روحياً، ولكنه لم يرتو..وكيف يرتوي؟.. أيوجد أحد من العطاش ارتوى قط؟ فزاد احساسه بالحرمان الروحي لما استقر في أعماقه من الزفرات والحسرات، ولأنه لم يجد (دورا) في الوسط الفني.
أين دورا؟ أين مثله الأنثوي الرائع؟ ألم تجسد له بعد؟ وحتى التي تجسدت له قد ماتت بزواجها وهي قريبته التي أبينا ان نذكر اسمها، سار كالمجنون وكلما صادفته امرأة من الوسط الفني توهم دورا أو روح دورا لا ترضى بهذا الهيكل الآدمي فتهرب منه، فيتركها بعد فترة، آخذاً في البحث عن غيرها سعياً وراء ظل دورا من جديد.
من هذا المنطلق افتتن الشاعر في تلك الفترة بالفنانة القديرة (أمينة) وكانت ممثلة معروفة، تلقفتها «الفرقة الملكية للتمثيل» عام 1938 ولقبت بممثلة القصر الملكي، وكانت في نفس الوقت شاعرة أديبة تنشر انتاجها الأدبي في بعض المجلات الأدبية والفنية مثل الصباح، ودنيا الفن، وروزاليوسف اليومية، وكان يربطها بناجي حب الأدب، وكانت تستمع به كنديم من الندماء الملمين الماماً شاملاً بالشعر الفرنسي بصورة خاصة.
وكانت اللقاءات تتم في مقهى «ايزافيتس» ويدور البحث حول بودلير، وفرلين، ورامبو وغيرهم، ولم يستطع ناجي اخفاء اعجابه الشديد بالشاعر الرمزي والحسي بودلير، وقد ترجم له ديوان «أزهار الشر» وفي ليلة من ليالي المنادمة، صدح الشاعر لأمينة بهذه الأبيات:

يا حبيبي وحياتي
هات لي ثغراً هات
ذهب الماضي بعيداً
وانقضى في الترهات
فاعطني حباً كبيراً
واسقني ملء لهاتي

فعلمت أنه قد نسي «الساقية» القديمة، وما عليها هي الا ان تحل هي محلها، حيث ترويه من النبع الذي حرم منه ولما قدمت أمينة له الكأس، ارتشف منه رشفة ثم كسره، اذ لم يكن مثل كأس «دورا»، وانطلق لينحر غيرها بسكين «دورا» في محراب الحب، ومن هؤلاء المذبوحات الممثلة أمينة الثانية، وقد كتب لها قصيدة «نفرتيتي الجديدة».
وزينب وقد كتب لها قصيدة «وداع المريض» و«زوزو»، وقد كتب لها قصيدة «الأطلال» على حد زعمها هي، والحقيقة ان «دورا» هي الملهمة الحقيقية لهذه القصيدة.
وهناك أيضاً «زوزو» الثانية وقد كتب لها قصيدة (صخرة المكس) «وشهر زاد» وشاعرات وأديبات منهم «أماني» وقد كتب لها قصيدة (أمل) «وجميلة» «وزينب».. وكان لكل منهن قصيدتها الخاصة، «وأنعام» العازفة والرسامة وقد كتب لها قصيدة (صولة الحب)، ولن ننسى الممثلة الراقصة «سامية» التي ألهمته قصيدة (بالله مالي ومالك) «وزازا» الفاتنة التي عشقته فعلاً من بين الجميع والتي رآها مازالت صغيرة على سكين «دارا»، فترفق بها وأحبها الى حد ان اشاعة انتشرت في ذلك الوقت تقول انهما قد تزوجا زواجاً عرفياً والدليل على حب «زازا» له هو رفضها ارتداء زي الحداد على رحيله، زاعمة انه لم يمت، وانما رحل الى مكان بعيد دون ان يترك لها عنوانه والشاهد على ذلك ما كتبته في احدى رسائلها للمرحوم الشاعر أحمد رامي.
والجدير بالذكر ان هؤلاء المذبوحات بسكين دورا، طلبن من الشاعر عدم نشر القصائد التي كن فيها عرائس الالهام له، سواء في الصحف أم الدواوين.
وفيما يأتي أشهر قصائد المذبوحات بسكين دورا قاتلة حبيبها الشاعر الرقيق:
< القصيدة الأولى: «وداع المريض»
عروس القصيدة: الممثلة «زينب»
المناسبة: كانت زينب مشهورة وقتها بأدائها الرائع لدور ليلى في مسرحية «مجنون ليلى» للشاعر أحمد شوقي، وقيل أنها كانت مريضة في ذلك الوقت، فعالجها ناجي الى ان شفيت، وبعد ذلك أطلعها على هذه القصيدة، فتوسلت اليه ألا ينشرها على الناس لأنها أصبحت من جواهرها الخاصة، ومطلع القصيدة يقول:

نعم الغدو غدا وأين رواحي
ويح الصباح لقد مضى بصباحي

< القصيدة الثانية: صخرة المكس (من شواطئ الاسكندرية)
عروس القصيدة: الممثلة «زوزو»
المناسبة: كان بين الشاعر والممثلة مراسلة متبادلة ومازالت تحتفظ بالرسائل وقد كتب الشاعر هذه القصيدة ليذكرها بما كان عند صخرة المكس عندما تلاقيا على رمال البحر وأمواجه عند الصخرة ومطلع القصيدة يقول:

تعال نزف للثغر السلاما
ألست ترى على الثغر ابتساما

< القصيدة الثالثة: بالله مالي ومالك
عروس القصيدة: الممثلة الراقصة «سامية»
المناسبة: طلبت الفنانة من الشاعر ان يصفها شعراً وكان ذلك عام 1948، ومطلع القصيدة يقول:

يا من تمنيت شعراً
يكون كفء جمالك

< القصيدة الرابعة: أمل
عروس القصيدة: الشاعرة «أماني»
المناسبة: كانت الشاعرة أماني محررة بدار الهلال، وقعت في حبائل عاشق دورا قريبتها فأرسلت اليه أبياتاً قالت في مطلعها:

يناديك قلبي هوى واشتياقاً
فمالك لست تجيب الندا

وقد كتب ناجي معارضاً أبيات الشاعرة أماني فقال في مطلعها:

حبيبة قلبي حياتي الفدا
وان كان في مقلتيك الردى

< القصيدة الخامسة: صولة الحسن
عروس القصيدة: الفنانة العازفة «إنعام»
المناسبة: تلاقت السيدة انعام مع الشاعر فمر على روحها وجسدها مرور النسيم فقد كانت مثالاً لحبيبته دورا، وقد بدت أنها من المذبوحات، ولكنها عاشت فترة قبل ان تذبح بسكين دورا، شأنها في ذلك شأن «زازا» التي شاع عنها أنه تزوجها زواجاً عرفياً، وفي هذه الأثناء استطاعت انعام ان تلهم الشاعر ابراهيم ناجي بقصيدة قال في مطلعها:

إيهِ إنعام والمحاسن كثر
ما لمن لم يقم بوصفك عذر

وهكذا نجد ان سرب الممثلات والمغنيات والراقصات والعازفات والأديبات والشاعرات كن في حياتنا نحن فتيات يقمن بأدوارهن المعروفة في هذه الحياة، أما بالنسبة لعالم ابراهيم ناجي الشعري فقد كن عرائس أحلامه والهامه أو حوريات القباب الزرقاء المتواربة خلف الغمائم البيضاء.

 

فاضل خلف

المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.