من يتابع أخبار الكويت ونشاطاتها السياسية لا يمكن له ان يتحاشى الارباك والاستغراب مترافقين مع تساؤلات عن الجدية السياسية على المسرح اليومي، ولابد من ان يداهمه العجب من الحالة الكويتية التي تخلط بين الكلام الرصين من المقام السامي وبين تفاعلات وتعليقات الزوايا البرلمانية على ما جاء في خطاب رئيس الوزراء، مع تعليقات تحمل اللامعقول من الأماني.
ولم تتهرب أصوات النواب من الاستفادة من هذه الحالة المسكونة بالفوضوية الهزلية، فيبدأ السباق في تحضير الأسئلة المستفسرة عن قضايا تحتاج الى آخر صرعات التكنولوجيا من أجل تبويبها والبدء في فرز معانيها والوقوف على أهداف من أعد هذه الاسئلة الموجهة الى الوزراء، وفوق الأسئلة تصدر تعليقات صحافية من نواب يهددون الوزراء بالاستجواب اذا لم تكن الأجوبة مريحة تنال رضى النائب.
ولكن أكثر المفاجآت تأتي من النائب رياض العدساني الذي لم يقتنع بالتخاطب مع الوزراء، فتجاوز المربع العادي المتمثل في الوزراء متوجها الى رئاسة الحكومة وهي قمة السلطة التنفيذية، في استجواب معنون الى رئيس مجلس الوزراء يحمل صفات الشمولية مختصرا الأجندة الكويتية الجماعية في وثيقة واحدة ضمنها كل ما يدور في خواطره.
وبالطبع فان الخطوة المفاجئة لابد ان تحرك مختلف الانفعالات، فتقرأ التعلقيات عن الارتجالية في التوقيت الذي جاء بعد النطق السامي وخطاب رئيس الوزراء مباشرة وقبل ان يبدأ مسار الحكومة في تنفيذ مسؤولية الادارة، وفي غياب المبررات المقنعة لهذا الاستعجال، وكأن المجلس في ماراثون بين نوابه في المناطحة مع الوزراء.
ويأتي رئيس المجلس، السيد مرزوق الغانم في تعليقات ترطب الأجواء في الاشارة الى حق كل نائب في المساءلة، لكن هذه الاشارة تتجاهل التسلل الاجرائي وتغفل عن الدور السياسي للرئاسة في جوهر التقاليد البرلمانية التي تمنح الرئيس المسؤولية الأدبية في تأمين سلامة العمل النيابي وانضباطه وفق اللوائح وضرورات تقدير الملاءمة الزمنية والسياسية.
فرئيس المجلس يمثل المزاج الشعبي في الشراكة البرلمانية في ادارة الدولة، ومقعده بجانب سمو الأمير ينطق بهذه المعاني، ولم يأت ذلك الترتيب من أجل املاءات بروتوكولية وانما ترجمة تعبيرية ومرئية لقنوات التواصل والتفاهم، وعنوانا لمتانة المكانة التي يشغلها رئيس المجلس.
وليس المهم ترضيات النواب أو الوزراء وانما الحرص الأكبر هو تأمين الأداء السليم للمسيرة البرلمانية مع الالتزام بالمصالح العليا للدولة، وعلينا ان نتذكر بأن مهندسي الدستور ورعاته الذين شهدوا ولادته عارفون بأن الاستجواب هو آخر الممرات وليس أولها، وأن البنية الدستورية الكويتية مازالت تستبعد التجمعات الحزبية ولا تشجع قيام الأحزاب، وتعول كثيرا على وعي النواب وتحسسهم لظروف الدولة وتقديرهم للمصالح العليا.
فلا يشكل النواب حكومة المعارضة البديلة، لأنهم شركاء في انجاح المسار السياسي في الدولة بما في ذلك الخطة التنموية والمواقف السياسية، ويمثلون وفق روح الدستور وغاياته، المرجعية الراشدة في التنقيح والتصحيح في سياسة الحكومة، وهم والحكومة وجهان لعملة واحدة.
ويمكن القول إن الممارسة البرلمانية أهملت هذا البعد الجوهري عن الدور المشارك للنواب في تنفيذ متطلبات الدولة، لأن هذا الدور يتطلب الدراسة والتحضير والتفاعل مع ثقل المسؤولية وهضم الملفات، واتجهوا الى الأسهل في ممارسة الأجدى في الجاذبية النجومية وادعاء الجسارة في المواجهة.
هناك قضايا ملحة في حياة الكويت تؤثر في سلامتها وأمنها واستقرارها أجدى في التعامل معها بدلا من الأطروحة الفضفاضة التي قدمها النائب رياض العدساني، وأبرزها القضايا الملحة مثل التركيبة السكانية التي يشكل شعب الكويت فيها %31 مع ان الهدف المطلوب كان رفعها الى %35، وهي التركيبة الموجعة للحاكم وللأفراد وللأعضاء، وكان الأجدى بأن يسعى المجلس بمبادرات جريئة لمواجهة هذا الزحف الخطر الذي قلب قواعد العمل الأمني، وعندما تفتح الأبواب في معالجة هذا الوضع المزري ومسبباته، لن يفلت عدد من النواب من المساءلة في ممارسة الوساطات واستحضار الأقرباء وابناء العشيرة الى الكويت، ولعل الوضع المتدهور في سورية يدفع نحو الالتفاف الى التوسطات لجلب مجموعات سورية الى داخل الكويت، دون الحرص على متطلبات الأمن.
لايمكن لأحد منا ان يتجاهل عادة الاسترخاء لنهج الارتياح التي أوجدت ثغرات في صلابة الجدار السياسي الكويتي تسلل منها نظام صدام حسين وقام بتصدير آلاف من العراقيين تحت غطاء العمالة وفنيين في تشغيل المؤسسات العراقية الموجودة وهم في الواقع كتائب المقدمة لخطة الغزو.
لا زال أسلوب الاسترخاء قائما ليس فقط في النواحي الأمنية، وفي أبعاد التركيبة السكانية، وانما في قضايا المال وحصاد الدولة المادي من النفط واستسهال الصرف وتضخيم التقديرات وتصاعد التوظيف السياسي وتورم ميزانية الرواتب.
وعندما جاءت بعض الأصوات في نقد حول دولة الرفاه، طار العقل من الكثيرين في صراخ حول الفجور الآثم الذي يدعو الى ترشيد المسار المالي وتصحيح نهج التبذير.
ودولة الاسترضاء والاسترخاء حاضرة بكل قوتها في غياب الرصد الواقعي للحالة المضطربة في المنطقة التي تحمل معها المخاطر المتنوعة من صعود راديكالية الإسلام السياسي كما نراها في كل من مصر وسورية وتونس والسودان واليمن، وتعاظم الطائفية في كل من لبنان والعراق باحتضان ايراني، واتساع النفوذ القبلي السياسي في دول الخليج، وبما يتعارض مع التراث المتعقل والمعتدل في اتزان سلوك الدولة الخليجية وبما يعرقل المساعي التي تبذلها المجتمعات الخليجية لترسيخ الدولة المدنية التي تستند على مؤسسات رسمية وشعبية ويعتلي فيها احترام القانون وتنحسر معها الطائفية والتحزبية الدينية والعرقية.
ونلاحظ استسلام دول الخليج للارتياح والرخاء في عجزها عن بناء منظومة أمنية جماعية رادعة تعبر عن تصميم هذه الدول على الاسهام الأكبر في الحفاظ على سلامة وأمن سيادتها واستقلالها، ويتسلل العجز الى الشأن الخارجي في فشلها بتأمين سياسة خليجية واضحة تجاه ايران، ليس فيها استفزاز وانما فيها حقوق الجوار في حسن التصرف ونبذ التدخل ووقف التحريض، كل ذلك بسبب التباين في المنظور الخليجي لحقائق ايران، واختيار الأسهل والابتعاد عن المكلف، ويعود هذا التباين في الدبلوماسية الخليجية الى العجز المستمر عن التوصل الى استراتيجية موحدة للدبلوماسية الخليجية تجاه ايران.
وهنا علينا ان نضع في حساباتنا بأن ايران تعمل جادة للسلاح النووي، في تحد واضح لرأي العالم العالمي، لأنها تريد الحماية النووية لنظامها ولا يهم ايران تصدع اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية التي وقعت عليها وابعاد هذا التصدع الذي سيحول المنطقة الى سباق نووي ستدخله معظم الدول وبما يحول الكوكب الأرضي الى حلبة صراع نووي يشارك فيه القريب والبعيد، وسيكون العالم مسرحا لسوق عكاظ نووي.
نعود الى واقع الكويت، ومثلما أشرت في الأسبوع الماضي إلى ضرورة ان ينسجم أداء الحكومة لاسيما قيادة سمو رئيس الوزراء مع متطلبات العصر الحالي في تبني مبادرات جريئة واتخاذ خطوات فيها ايحاء بعزم القائد الواثق على ان يبدأ بالتدرج في التخلي عن الدبلوماسية الناعمة في ادارة الدولة، ويبدأ في المقاربة الواقعية فلا يتردد بالقول بأن الدولة لا تستطيع الاستمرار في الانفاق بالحجم الحالي، وأن يقول بأن أمن الكويت يستدعي رفع نسبة الكويتيين من السكان ويلتزم بها، وينظر الى الأفق الخليجي بتحفيز القيادات في الخليج على تبني مواقف متقاربة ان لم تكن موحدة في القضايا المتصلة بالأمن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية.
يرتفع الأداء السياسي النيابي مع جدية الحكومة في الخروج من النمط التقليدي في ادارة الدولة، وتأكيد عزمها على ممارسة القيادة بحيوية وبفكر فيه خيال وابداع، وغير ذلك سيتواصل الفراغ وسيستمر نهج المساءلات والاستجوابات مع ما تفرزه من تسخين في العلاقات البرلمانية – الحكومية، وبما يسبب الضرر لكل الاطراف، ويربك خطة التنمية التي ستطرحها الحكومة أمام البرلمان..
عبدالله بشارة
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق