عبدالله خلف: بكائية جُرهم

بغت جُرهم بمكة، فظلمت من دخلها من غير أهلها، فأجمع بنو بكر بن مناة وغبشان بن خزاعة على إخراج جرهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية لا تُقر فيها ظلماً ولا بغياً، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته.
هكذا بغت جرهم فأُخرجوا من مكة.. جاء ذلك في سيرة ابن اسحاق، والسيرة النبوية لابن هشام «الجزء الأول صفحة 105».. وحزنت جُرهم على خروجها من مكة فقال في ذلك عمرو بن الحارث الجرهمي في بكائية، ما قيلت لأحد حتى تشاءم من زوال نعمته وملكه..
وقائلة والدمع سكب مبادر
وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
هكذا خرجت جرهم من مكة إلى اليمن وأخذت تُردد بكائيتها وكان سدنة البيت منهم يتولون السقاية ويجبون من ذلك المال الكثير، وخسرت شرف خدمة البيت الحرام.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ويقول عن نزوحهم عن البيت في مكة:
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد ثابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة
كذلك، يا لَلناس تجري المقادر
إلى آخره…
والحجون عن يسار المار إلى مكة وفيه جبانة تعرف بجبانة الحجون، فيها مدفن جماعة من الصحابة دثرت قبورهم.
???
وفي حكاية جاءت في شرح قصيدة ابن عبدون، عن سهل بن هارون إنه قال: كنت مع يحيى بن خالد البرمكي في الرقة، فغشيته سآمة ثم أغفى قليلا فانتبه مذعوراً فقال: يا سهل رأيت في منامي أن ذهب مُلكنا وذل عزنا، وانقضت أيام دولتنا، فقلت وما ذاك أصلح الله الوزير قال: رأيت في المنام كأن منشدا أنشدني:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
قال سهل بن هارون: فلما كان في اليوم الثالث وأنا بين يديه أكتب توقيعا إذ أقبل رجل وقال:
قتل أمير المؤمنين جعفراً.. فرمى يحيى بن خالد القلم من يده، وقال:
هكذا تقوم الساعة، ثم قُبض على يحيى وعلى الفضل وسجنا حتى ماتا في السجن وكان موت يحيى سنة 190هـ بعد قتل جعفر بثلاث سنوات.

وحكاية أخرى أن إبراهيم بن المهدي خرج مع الأمين من قصر الذهب لما اشتد حصار طاهر، وكانت معهما جارية اسمها «ضعف» تغنيهما فغنت بشعر النابغة الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً
وأكثر دنياً منك ضرّج بالدم
فتطير الأمين من ذلك وقال لها:
غنينا غير هذا فغنت:
أبكى فراقهم عيني وأرقها
إن التفرق للأحباب بكاء
مازال يعدو عليهم صرف دهرهم
حتى تفانوا وصرف الدهر عداء
فقال الأمين: أما تعرفين غير هذا؟ ثم غنت:
أما ورب السكون والحرك
إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا
دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان من ملك
قد انقضى ملكه إلى ملك
ومُلك ذي العرش دائم أبدا
ليس بفان ولا بمشترك
فتطير من قولها وقال لها: اسكتي، ثم عاد إليها وقال لها ارجعي إلى غنائك، فغنت:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فأسكتها وتركها ساعة، ثم أمرها بالغناء فغنت:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس، ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
فقال لها: قومي، فقامت فعثرت بقدح بلور حسن الصنعة كان بين يديه فكسرته فقال الأمين لإبراهيم بن المهدي: أظن أمري قد قرب، وقمت فسمعت قائلا يقول:
لا تعجبن من العجب
قد جاء ما ينفي العجب
قد جاء أمر فادح
فيه لدى عجب عجب
قال إبراهيم من المهدي فما لبثت معه بعد ذلك اليوم إلا قليلا حتى قتل الأمين.. وتطير كثير من الناس من قول عمرو بن حارث الجرهمي وتطير آخرون من أقوال أخرى.

عبدالله خلف

المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.