ماذا لو كانت الأنتروبولوجيا هي جوهر السينما؟
من أين انبعث؟ من مملكة الأموات، من التراب والجليد، وجوف جثة بعد أن تركه رفاقه وحيدا يواجه الموت، مثل بطل فيلم المريخي لريدلي سكوت؛ مع فارق أن المنبعث يقاتل بوسائل بدائية فقط، لذا استحق أوسكار أفضل ممثل.
هكذا عاد المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو بالمتفرجين إلى مرحلة الإنسان البدائي الوحيد في مواجهة الطبيعة. يأخذنا المخرج إلى مكان معزول لزيارة كهوف وعينا قبل أن نستخرج الأكل من الثلاجة ونسخنه في الفرن ونأكله بالفرشة والسكين أمام الشاشة.
في الفيلم نرى غلاس – ليناردو ديكابريو ويحمل اسم الثلج – يهيم جائعا في محيط عدواني، وحين يعثر على جثة متعفنة يمضغ لحمها بفرح.. يسكن الكهف والكوخ ويرتعش من البرد وهو يحاول إيقاد النار…
لقد استنزفت السيتكومات تصوير الحياة المعاصرة، لذا يبحث المتفرج عن عصر آخر، يحتاج مسافة بعيدا عن المدينة، وهذا ما يفسر كثرة ونجاح الأفلام التي تصور في فضاءات معزولة مغلقة تذكر المتفرج بجده بعد اكتشاف النار.
يشعر المتفرج باطمئنان تام لأن غذاءه وأمنه مضمون. لذا يستمتع بعذاب الآخر البعيد. يكتشف المتفرج بدهشة الضرورة الحاسمة للأكل، يتعجب وهو يرى محنة الإنسان البدائي مع الموقد والمسكن.
يرى الاغتصاب من الخلف، مما جعل النقاط الحساسة للمرأة في ظهرها… يرى الفرد يزاحم الذئاب على الفريسة، يكمن ويتلصص على الذئاب تطارد الجواميس، وحين تتمكن منها يخرج ليزاحمها أو ليأكل فضلاتها.
بعدها تطور غلاس صار يقنص ويصطاد السمك بأقدم طريقة، يقيم حوضا جانبيا على مجرى النهر فتأتيه السمكة المنحوسة.. يأكل اللحم نيئا ومطبوخا.. سواء عنده.
في فراره يمشي مع التيار مثل الماء ليبقى حيا. يختار الماء المسار الأقل مقاومة لانسيابه…هكذا يستخدم غلاس قوى الطبيعة لصالحه. حين يعجز عن رد شر يقاومه بالتمائم، وقد كان يحتمي من الشر بمخالب الدب التي مزقت لحمه فعالجه بالأعشاب…قتل غلاس الدب بطريقة أقل إبداعية من طريقة أنتوني هوبكينز في فيلم the edge. مع الزمن روض الإنسان الوحوش لكنه لم يتمكن من ترويض الوحش الذي يرقد داخله.
لترويض الوحش الداخلي يقف غلاس على إله الهنود ويسترجع معنوياته تحت جرس الكنيسة الخربة.. يتخيل طائرا يخرج من قلب زوجته، في إحالة على لقطة لتاركوفسكي.
وليربط المخرج الماضي بالحاضر ينبعث غلاس من جثة رمزية:
يحكى أن الموت جاء يستأذن قارون قبل أخذه فطلب منه مهلة يوما، وحين جاءه وجده في خزانة حديدية سميكة ظن قارون أنها ستمنع الموت من الوصول إليه. للنجاة طلب قارون مهلة ثانية. وحين حل موعدها خرج يبحث عن مكان يختفي فيه لكي لا يدركه الموت، دخل في جوف حصان ميت، لكن الموت اقتحم الرائحة الكريهة وأخذ روح قارون من وسط العفونة. كان يمكن لقارون أن يختار الموت وسط قصره، لكنه دخل جوف الحصان لينجو فلم ينبعث.
في الفيلم قفز حصان غلاس في أخدود فمات. مزق أحشاءه ودخل جوفه مستفيدا من الدفء، وفي الصباح انبعث حيا. هكذا استخدم المخرج حكاية قديمة في سياق جديد.
ماذا عن الفن في الفيلم؟
سرديا لم يقع إيناريتو في مبالغة كونتان تارانتينو الاضطرارية لمفاجأة المتفرجين بعد تسرب سيناريو فيلم الصعاليك الثمانية. يقول أحد الرسامين: “البراعة في الفن عقم”.. ينطبق هذا على تارانتينو.
بصريا يقدم “المنبعث” وحدة بصرية كبيرة مع تنوع الفضاءات بفضل التصوير في الغابة لكي لا يسبب بياض الثلج الملل. جرى التصوير بعيدا عن الشمس، لذا غلبت الكاميرا ضوءها. تم التصوير بدون إضاءة اصطناعية.. جرى التصوير نهارا فقط، وهكذا أتيح للكاميرا أن تتحرر من التركيز على المكان المضاء فقط.
لذلك استخدم المخرج كاميرا محمولة كثيرا، فضمنت له سيولة اللقطات وتواصلها.. وأحيانا – وبهدف تقليص دور المونتاج – يقطع اللقطة على بياض الثلج أو سواد فروة البطل ثم يستأنف التصوير بالتركيز على الفروة، قبل تغيير وجهة الكاميرا فتبدو اللقطتان كأنهما واحدة. للإشارة يعتبر استخدام اللقطة – المشهد (plan séquence) تحديا للمخرجين.
وقد تقمصت الكاميرا عين البطل وصارت تزحف معه وتتلصص لتكتشف مكان اختفاء العدو. بهذا فاز الفيلم بأوسكار أفضل صورة وأفضل إخراج وأفضل ممثل لليوناردو ديكابريو، في دور أمريكي أبيض متصالح مع الهنود الحمر وعدوه هو أبيض آخر. وهذا يذكر بفيلم “الرقص مع الذئاب” لكيفن كوستنر.
لماذا انبعث غلاس؟
لينتقم، وهو لا يوافق الهندي الذي يعتبر الانتقام شأنا إلهيا. كان الهندي صاحب الشعار على خطأ، لذا قتل وكتب قاتلوه على جثته المعلقة شعارا أعمق وهو “كلنا متوحشون”. هل يستوي القاتل والمقتول في التوحش؟
يطارد غلاس عدوه بالساطور لأن الانتقام عن بعد لا يشفي الغليل. حتى الجبناء يمكنهم الانتقام بالمسدس الذي سبب تحولا كبيرا في طبيعة الحروب، حتى إن دون كيشوت سيرفانتيس 1605 يدين استخدام البارود لأنه مكن الجبناء من القضاء على الشجعان.
لقد بدّل المسدس مفهوم الشجاعة، زاد من المسافة بين الجندي وعدوه. لقد قلصت التكنولوجيا الحربية من أهمية عامل الشجاعة في الحرب. بينما يحتاج المتوحش الكامن فينا إلى انتقام بدائي بالسكين والساطور (هذا ما أدركه كوبريك في فيم بريق -شاينن). وقد كان للون الدم على الثلج حمولة جمالية تقنّع فعل القتل الشرس.
ستبقى اللقطة في ذهن المتفرج الآمن. لن يتذكر المتفرج فيلما تكون مقدمته أفضل من خاتمته.
محمد بنعزيز
قم بكتابة اول تعليق