استطاعت التكنولوجيا الحديثة أن تحدث تغييراً كبيراً ضمن المجتمع الإنساني، عبر الاختراعات في مختلف قطاعات الاتصالات والتجارة الالكترونية وغيرها.
لكن من اللافت أن هذه الابتكارات لم تغير كثيراً في القدرة الانتاجية للأشخاص، وتحولت إلى وسائل تسلية أكثر منها إلى زيادة الطاقة الانتاجية، غير أن التكنولوجيات هي أدوات، تعرض وتوفر الفرص، وطريقة استخدامنا لها هي دائما أمر متروك لنا.
مارتن وولف
بات من المعتاد الحديث عن «التكنولوجيا» وكأنها قطاعا خاصا من الاقتصاد، يتكوّن من تصنيع السلع الإلكترونية المتطورة، إنشاء البرامج، وتقديم الخدمات التي تعتمد على تكنولوجيا المعلومات والاتصال.
هذا التعريف ضيق الأفق بشكل سخيف، لأن كل تقنية اخترعها البشر، من الفأس الحجري وما تلا ذلك، هو «تكنولوجيا». علاوة على ذلك، فإن لتكنولوجيات الأغراض العامة الجديدة مثل الكمبيوتر والإنترنت، تأثيرات خارج إطار قطاع التكنولوجيا المحدد بشكل ضيق.
نحن بحاجة الى تقييم الابتكارات المعاصرة في سياقها الأوسع. وفي ما يلي سبع نقاط حول هذه التغييرات.
أولاً: اختراق الابتكارات الحديثة لتكنولوجيا الاتصالات كان سريعاً بشكل مدهش. ففي نهاية عام 2015 كان هناك أكثر من 7 مليارات اشتراك في الهاتف الجوال، مما شكّل نسبة اختراق قوامها %97، أي أكثر بحوالي %10 مما كانت عليه النسبة في عام 2000. ونما معدل اختراق الاتصال بالانترنت من %7 إلى %43 خلال الفترة نفسها.
من الناحية الاقتصادية أدى ذلك لنمو التجارة الإلكترونية، وتحوّل الصناعات التي يمكن تحويلها إلى «بايتات» (مثل الموسيقى، الفيلم ووسائل الإعلام الإخبارية) ولنمو «الاقتصاد التشاركي». من الناحية الاجتماعية حفّز ذلك الأمر التفاعلات البشرية. أما سياسيا، فقد أثر في العلاقات بين الحكّام والمحكومين.
ثانياً: هناك «فجوة رقمية» اساسية قائمة، ففي عام 2015 كان حوالي %81 من المنازل في العالم المتطور تملك اتصالا بالانترنت، وكانت النسبة في جميع الدول المتقدّمة %34 والنسبة للدول الاقل تطورا حوالي %7.
المعلومات تمثل القوة، وليس واضحا بعد ما اذا كان الانتشار السريع لمسألة الاتصال بالانترنت سيكون اكثر اهمية من الاختلافات المستحكمة في توافره.
ثالثاً: لقد فشل وصول الانترنت والهواتف الذكية في تحقيق تحسن مطرد في نمو الانتاجية.
ويظهر هذا الامر بأفضل حال في الولايات المتحدة التي تعتبر قائدا في تطوير التكنولوجيات الجديدة، والتي لا تزال منذ اكثر من قرن اكبر اقتصادات العالم من الناحية الإنتاجية والابتكارية.
لقد نما الناتج لكل ساعة عمل في الولايات المتحدة بمعدل %3 سنويا خلال عشرة اعوام حتى 1966، بينما انخفض معدل النمو بعد ذلك ليصل الى حوالي %1.2 في العشرة اعوام التالية حتى بداية الثمانينات، وبعد اطلاق الشبكة الدولية العنكبوتية (الإنترنت)، ارتفع المعدّل المتحرك الى %2.5 في العشرة اعوام حتى عام 2005، لكنه انخفض تاليا الى %1 فقط في العقد الذي يصل حتى عام 2015.
ان تحليل مصادر النمو في القدرة الإنتاجية يؤكد هذه النقطة، فخلال عشرة الأعوام التي تصل إلى عام 2015، لم يرتفع متوسط نمو «العامل الشامل للإنتاجية» في الولايات المتحدة وهو مقياس الابتكار الا بمعدل %0.3 سنوياً.
لا يجب ان نفاجأ من ذلك، وكما يجادل روبرت غوردون من جامعة نورثويست، فإن ابتكارات مثل المياه النظيفة، والصرف الصحي الحديث، والكهرباء والهاتف، والمذياع، والصناعة النفطية، ومحرك الاحتراق الداخلي، والسيارة الطائرة ــ وجميعها ابتكارات تم التوصل اليها في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ــ كانت متحولة بنسبة اكبر بكثير من تكنولوجيات المعلومات التي شهدناها خلال الــ 72 عاما الماضية.
البعض يرى أن الاحصائيين يفشلون في قياس الناتج بشكل صحيح، وذلك جزئياً بسبب عدم قدرتهم على التقاط الخدمات المجانية، مثل البحث، والذي يولّد فائض قيمة ايجابية واسعا لا يتم قياسه.
مع ذلك، ليس واضحاً أبداً لماذا فقد الإحصائيون فجأة قدرتهم على قياس ناتج التكنولوجيات الجديدة في وقت مبكر من الألفية.
ومجدداً، لقد ولّدت أيضاً معظم التكنولوجيات الجديدة فائض قيمة إيجابية واسعة لم يتم قياسه، فكّر في تأثير الضوء الكهربائي على قدرة الإنسان على الدراسة.
رابعاً: لقد عززت التكنولوجيات الجديدة الميول نحو مزيد من عدم المساواة، في ثلاث نواح على الأقل.
الناحية الأولى تمثلت في نشوء الأسواق التي «يسيطر عليها الفائز على كل شيء»، أي تلك التي يهيمن فيها قلّة من الأشخاص الناجحين مع أعمالهم وبضائعهم على الاقتصاد العالمي.
الناحية الثانية تمثلت في نشوء ظاهرة العولمة، والأخيرة بالانفجار الحاصل في التجارة المالية وما يرافقها من أنشطة مالية مختلفة.
خامساً: يجادل البعض في أن وصول الروبوتات والذكاء الاصطناعي سيحوّل أسواق العمل، مما سيجعل حتى المهارات المتطورة زائدة عن الحاجة، هذا الأمر لو حدث فعلاً فسيولّد انقسامات بين ملاّك الروبوتات وباقي السكان، يأتي شبيهاً بذلك القائم بين ملاّك الأراضي والعمّال المعدمين.
سادساً: ظهور ونمو الاتصالات العالمية، فاعتمادنا على الفضاء «السيبراني» والشركات التي تعتمد على التكنولوجيات المحمولة و«البيانات الكبيرة» يطرح أسئلة كبيرة حول الخصوصية، الأمن القومي، القدرة على فرض الضرائب، وبشكل أوسع حول العلاقة بين الحكومات، المؤسسات والأفراد.
سابعاً: إن نشوء وسائل الإعلام التفاعلية التعددية بات يؤثر في السياسة، وإن زيادة فرصة الوصول الى المعرفة يعتبر نعمة محتملة، لكن يجب الإشارة إلى أنه من الممكن أيضا استخدام التكنولوجيات الجديدة لنشر الأكاذيب، الكراهية والغباء.
وختاماً فإن التكنولوجيات هي أدوات، تعرض وتوفر الفرص والمخاطر، وما نفعله بها، هو دائماً أمر متروك لنا.
قم بكتابة اول تعليق