كانت فرصة رائعة أن دعاني (أو بالأحرى أمرني) حفيدي جاسم وهو في «ربيعه» الخامس الى مشاهدته يتدرب مع رفاقه على لعب كرة القدم. قلت في نفسي إن الامتثال لـ«اوامر» الاطفال مناسبة للابتعاد عن عناء المهنة وضغط العمل ومتابعة الاخبار التي تصد النفس وتؤذي السمع وتخدش النظر… لكن اللحظات التي عشتها في الملعب اشعلت حزنا كبيرا في داخلي وايقظت خوفا مزدوجا على البلد وعلى الجيل الذي سيعيش في كنفه.
أطفال بعمر الزهور ومن مختلف المدارس والمذاهب والمشارب. أطفال لم يعرف احد من اولياء الامور من هو السني بينهم ومن هو الشيعي ومن هو البدوي ومن هو الحضري. اطفال جمعهم ملعب واحد اخضر يتسع لهم ولغيرهم كما اتسع لمن سبقهم. يتبارون وينتظمون ويلتزمون بالتعليمات ثم يخرجون على التعليمات ويخربون النظام وتنسيهم الشقاوة وحداثة السن سير المباراة قبل ان تعيدهم الصافرة الى الالتزام.
لم استطع ان اشيح بنظري لحظة عن حفيدي جاسم ورفاقه. تخيلت الملعب وطنا يجمعهم ويضمهم وبدأت لا شعوريا ارسم سيناريوهات مستقبلهم كلما كبروا وانتقلوا من مرحلة عمرية الى اخرى. هل سيدرسون المناهج الحالية ام المناهج التي درسها جيلنا؟ هل ستتطور المناهج الحالية لتواكب الثورة العلمية والتكنولوجية المستمرة ام ستبقى على ما هي عليه وتزداد تخلفا؟ هل سيعيشون الرقي السياسي الذي عشناه في الثانويات والجامعات ام سينقسمون في مراهقتهم الى سنة وشيعة وبدو وحضر؟ هل سيتخرجون في أرقى الجامعات والمعاهد كي يتبوأوا اعلى المناصب العلمية عربيا وعالميا ام انهم سيسجلون اسماءهم فور التخرج من اجل وظيفة حكومية تعفيهم من عناء الجهد والتفكير والتطور؟
أسئلة كثيرة جالت بخاطري ولم استطع كبح جماحها، ترافقت مع جردة حساب سريعة لمسارنا ومسيرتنا منذ مرحلة ما بعد الغزو. امامي حفيدي ورفاقه… 22 طفلا يلعبون الكرة، وخلفي 22 عاما… وما ادراك ما الـ22.
بلد يعيش حالة فريدة من الثقة بين الحاكم والمحكوم. بلد يعيش حراكا سياسيا صحيا كان الجميع يأملون أن يترجم مشاريع تنموية على كل الاصعدة. بلد حباه الله بالثروات ووضعه في قائمة الدول الأغنى في العالم. بلد تجاوز اكبر المحن بتمسك شعبه بسيادته وشرعيته… ماذا شهد منذ 22 عاما؟
منذ 22 عاما لم يبن أي مستشفى حديث ضخم كما حصل مع دول مجاورة كانت ترسل مرضاها الى الكويت للعلاج. بدل ان تكون الكويت مستشفى المنطقة صارت ترسل من يكسر اصبعه للعلاج في الخارج، مدخلة الملف الانساني في اطار الصفقات السياسية بين الحكومة والنواب.
لم تبن جامعة واحدة وبقيت مخططات وملفات جامعة الشدادية اسيرة الادراج والحفظ و«كتابنا وكتابكم»، حتى وصلنا الى مرحلة لم نعد نستطيع استيعاب خريجي الثانويات بل صار طلابنا يتوجهون الى جامعات قريبة في المنطقة تخرج عمداؤها واساتذتها في الكويت.
منذ 22 عاما لم يفتح طريق سريع لتخفيف الضغط عن الموجود، وكل طريق فرعي يشق يقفل المناطق خمس سنوات ولا يحل المشكلة.
لم تبن محطة كهرباء واحدة فيما تركت الموجودة للاهمال تارة وللصيانة الموسمية طورا… ناهيك عن اختلاط رائحة الطاقة المحروقة برائحة الصفقات، حتى وصلنا الى مرحلة تنقطع فيها الكهرباء وتتسبب بأزمات ومحن.
منذ 22 عاما لم تصل رسالة واحدة الى عنوانها متأخرة اقل من ستة اشهر، ولم تصل رسائلنا الى من يفترض انه مسؤول عن قطاع الاتصالات… ولن تصل.
لم تحل ازمة سير واحدة بل تفاقمت لغياب الرؤية والتخطيط وسيادة العشوائية والارتجال.
تراجع مستوى الخدمات في كل المرافق والقطاعات الرئيسية، وسادت العمالة السائبة. وضعت خطط لتطوير مستوى العمالة الكويتية واحلالها تدريجيا في مختلف القطاعات مكان العمالة غير الكويتية لكن الذي حدث فعليا هو ان العمالة الوافدة زادت في كل التخصصات من الفني الى الطبيب.
منذ 22 عاما وتجار الاقامات يظلمون العامل الوافد ويأخذون منه مبالغ تصل الى 3 آلاف دينار ثمن الاقامة، ثم يظلمون بلدهم ومجتمعه بإحضاره الى الكويت وحشره مع آلاف من امثاله وتركه يعمل تحت اي ظرف كي يسترجع ثمن الاقامة ويبدأ «التحويش» مع كل ما يمثله ذلك من مخاطر على الامن المجتمعي وليست الجرائم التي تحصل أو «ثورة خيطان» الا امثلة منها… هل سمع احدنا عن حبس تاجر اقامة واحد رغم ان كل تجار الإقامات معروفون وتجاوزاتهم موثقة؟
منذ 22 عاما والكويتيون يسمعون عن سرقات المال العام واسوأُها ما تم والكويت تحت براثن الاحتلال، وعن قضايا ثابتة لا لبس فيها، وعن تحقيقات موثقة، وعن افادات واضحة واثباتات دامغة واحكام نهائية انما لا المدان في الخارج تجلبه الكويت الى الداخل ولا المدان في الداخل يقف خلف القضبان.
منذ 22 عاما وحتى اليوم، هل نظرت الحكومة بجدية الى قضية الاستنزاف المالي وتآكل الاحتياطات من خلال السياسة المدمرة القائمة على التهام الرواتب وزياداتها وكوادرها غالبية الموازنة من دون اي رؤية أو تخطيط لموضوع اسواق النفط واسعار التعادل.
منذ 22 عاما… منذ 22 عاما… منذ 22 عاما… ينهرني حفيدي بيده طالبا رأيي في ادائه. اقول له انه كان رائعا. لا يصدقني ويقسم انني كنت شارد الذهن؟ اجيبه: «كنت أفكر فيك عندما تتخرج في الجامعة وعمرك 22 عاما… ان أعطانا الله عمرا».
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق