داود البصري: الكويت أمام منعطفات التحول التاريخي الإقليمي

مع دخول دولة الكويت عقدها السادس من الاستقلال والبناء والتطور الحضاري, فإن الوفاء للمبادئ والمثل العليا التي عبر عنها جيل الرواد والمؤسسون للكيان الكويتي الحديث يظل هو السمة الغالبة على مسيرة بلد وشعب تمرس بالحرية على مدى مسيرة تاريخ البناء الوطني, ولم يتخلوا يوما عن ثوابت العمل الوطني والقومي, فقد كانت الكويت, ومنذ أن ظهرت على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط والشرق القديم, خلية نحل ومركزا مهما لدعم القضايا العربية وللانفتاح على العالم وعلى كل ما هو جديد ومتطور, ومركزا من مراكز التبادل الحضاري والتأثر والتأثير, وكانت مرحلة الاستقلال عامرة بالمنجزات وتشييد الهياكل والأسس التحديثية للكيان الكويتي الحديث, والتزاما بالعهد المقدس بين الحاكم والمحكوم في خدمة الوطن والشعب, وفي تقديم كل أسس وعوامل النهوض الحضاري والرعاية الاجتماعية والصحية, كدولة حضارية متحضرة استطاعت بحكمة قيادتها وثقة المواطن أن تخطو خطوات واسعة جدا في ردم الهوة الحضارية, وفي تجاوز اشكاليات التخلف والتراجع الحضاري وفي نقل البلد لآفاق الحضارة والتقدم اعتمادا على موارد الخير وعلى الاستغلال الأمثل للثروة الوطنية وفي إطار واضح من الشفافية والعدالة والالتزام بخدمة الشعب.
تاريخ التجربة الكويتية الحديثة هو بمثابة سجل وطني يفتخر به أهل الديرة الذين تجاوزوا بكثير كل المآسي الخطيرة التي أحاقت بالشعوب المجاورة, وتمكنوا عبر الاحتكام لصوت العقل وللقيادة الوطنية العاقلة الحكيمة والملتزمة بحقوق الله والناس, من تجاوز الكثير من الاشكاليات والمعضلات الطارئة, والأزمات العابرة, مهما كانت شدتها وعنفها, لقد مرت الكويت دون شك شأنها شأن كل دول الاقليم بمشكلات وأزمات ومصاعب وتحديات بعضها خطير جدا, ولكن إرادة البناء والتحدي والإيمان بقدرة أبناء الوطن وقيادتهم على التفاهم والوصول الى توافقات مشتركة تحفظ الحقوق وتؤدي الأمانات لأهلها كان بمثابة الوصفة الوطنية الشاملة للعلاج من أي أزمة أو وعكة وطنية طارئة.
لقد واجهت الكويت خلال أكثر نصف قرن من مسيرة العمل الوطني المباشر والنشاط في الساحتين الإقليمية والدولية تحديات كبرى على المستويات المحلية والقومية والدولية أكسبتها خبرة وصلابة, وأكدت حضورها الفاعل في التنظيم الدولي ورسخت من قيمها الحضارية والمعنوية, فمنذ ستينيات القرن الماضي والكويت هي الحاضر الدائم في كل معارك الأمة السياسية والثقافية والعسكرية, وكان عطاؤها وعطاء شعبها معينا لا ينضب من الدفق والتلاحم المصيري مع الأمة وقضاياها وكانت مواقف الكويت القومية تعبيراً عن طبيعة انتماء شعبها العربي المسلم الذي نشأ منذ القدم ومنذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض على قيم الالتزام والحرية المسؤولة.
من الصعب الحديث عن مسيرة نصف القرن الأخير من العمر الكويتي من خلال سطور قليلة, فجليل الأعمال وحجم الإنجازات المتحققة وحلقات النجاح وكذلك الإخفاق والتعثر في بعض المراحل هي بمثابة سفر تاريخي جليل يؤشر على مسيرة الكويت الحديثة التي يتمسك أبناؤها مهما اختلفت منطلقاتهم النظرية والفكرية, في العالم العربي اليوم حالة شمولية من التغيير والانتفاض على الواقع البائس وعلى التردي في إدارة الدول والمجتمعات وكانت الكويت من أوائل الدول التي تنبهت لأهمية الإنسان فركزت على التنمية البشرية وعلى بناء العنصر الوطني وتربية أجيال تتسلم زمام المسؤولية والقيادة, كما تحدى الكويتيون كل اشكاليات أزمان الإرهاب الأسود, وقاوموا بكل ما لديهم من عزيمة متأصلة كل صيغ وأساليب الإرهاب المجرم الذي استعصى عليه تطويع الكويت واهلها, وكانت اشكالية ملف الأمن والديمقراطية هي الحاضرة على الدوام ولم تستطع كل الأزمات الوطنية والتحديات الإرهابية أن تحول الكويت الى سجن كبير, بل كانت القيادة الكويتية حريصة كل الحرص على النهج الديمقراطي وعلى التعامل الحضاري والراقي مع المشكلات والأزمات وفي إطار الحرص على الوحدة الوطنية وتحصين المجتمع من فيروسات الشقاق والتمزق التي ظلت الكويت في منأى عن كل مصائبها رغم وقوع الكويت المباشر ضمن نطاق دائرة الأزمة, بعد 50 عاما ونيف من الحرية والاستقلال يحق لبناء الكويت أن يفخروا بوطنهم الذي عانق الحرية وتمسك بتلابيبها ولم يستطع أبشع الطغاة تطويع ارادته الحرة, وكما هو واضح من رصد ومتابعة ما يدور من أحداث فإن الكويت تظل مستهدفة في أمنها الوطني وأساسها الوجودي, وتبقى الأحداث اليومية حبلى بكل ما هو مفاجئ, فالعقول السوداء تخطط في ليل بهيم للنيل من صمود وحرية بلد وشعب عشق الحرية وعانقها حتى الثمالة فردت له الصاع صاعين بالخير والانفتاح.
ستظل الكويت أقوى من كل أهل الفتن والدسائس, وسيظل للبيت رب يحميه ويذود عنه من غوائل الزمان وغفلة الغافلين الكويت عصية على الفتنة وهي كدأبها التاريخي لن تنحني أوتركع لأي إرهاب أو فتنة… تلك هي الحقيقة الوحيدة والخالدة في سفر التكوين الوطني.

* كاتب عراقي

dawoodalbasri@hotmail.com
المصدر جريدة السياسة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.