يبقى دائماً الواقع المعاش ومشكلات المجتمع مصدراً مهماً من مصادر فن المسرح، فمحاكاة الواقع هي أحد طرق الفن عموماً ومنها المسرح إلا أن الأسلوب الفني هو الذي يجعل العمل لا يطابق الواقع، لكنه يقدمه بوجهة نظره وبأسلوب إمتاعي.
ذلك ما قدمته فرقة المسرح الجامعي داخل مسابقة مهرجان «أيام المسرح للشباب» بدورته التاسعة من خلال مسرحية «المحطة 50» تأليف تغريد الداود وإخراج نصّار النصّار.
وهنا يشار إلى أن المؤلفة في أولى تجاربها، وهذا يبشّر بمؤلفة مسرحية كويتية ناضجة الفكر والحس الفني معاً، فهي تنطلق من عنوانها الدال «المحطة 50» لتعبّر عن حال الوطن وطموحات وأحلام أبناء ذلك الوطن- الكويت- مقدمة نماذج وشرائح عديدة ومتنوعة، منها الفنان والفنانة المثقفة والعجوز رمز التراث والأصالة والتاريخ والشاب المستهتر، حتى عامل النظافة البسيط، يجمعهم مكان واحد هو المحطة.
في «محطة 50» استخدمت المؤلفة في نصها الأسلوب الرمزي، حيث أصبحت المحطة رمزاً للوطن، خصوصاً مع الرقم 50 الذي يحدد عمر استقلال الوطن، وبالتالي يكون التجمّع لمجموعة الشخصيات التي ترمز إلى طبقات عديدة من المجتمع هي نقطة انطلاق نحو رحلة القطار، الأمر الذي يجعل التساؤل عن الرحلة، هل هي رحيل؟ وهو ما يجعل الأمر يدور وأن المؤلفة تسعى إلى دق ناقوس الخطر.
عموماً يبقى الجميع في حالة انتظار القطار الذي يصبح رمزاً للحياة والأمل والخلاص، إذ الكل يرى حلمه في وصول القطار كما أن حلمه البسيط في حقائبه التي يحملها، وهي تلك الأحلام الرومانسية البسيطة مثل حلم الزواج وحلم الفن والكتابة.
ورغم أن الفكرة الأساسية والحدث الدرامي يعتمد على الانتظار، ورغم أن الفكرة الأساسية في مسرح العبث كما عند بيكيت في مسرحية «انتظار جودو» إلاّ أن النص يخرج عن فلسفة العبث التي يرى أن لا جدوى من الانتظار ولا جدوى من الحياة ليقدّم تفسيراً عربياً ملائماً لفكرنا وعقيدتنا وهو أن الانتظار يعني الأمل والحلم.
وقد التقط المخرج نصار النصار خيوط النص وفكرته الأساسية وحافظ عليها، إلا أنه اضاف إليها الكثير من عناصر الإمتاع، وذلك من خلال الأغاني المصرية واللبنانية بل والأجنبية أحياناً، وجميعها تحمل إحساس الشجن وفكرة الأمل مثل «يا مسافر وحدك» و«نسم علينا الهوا»، مؤكداً في الوقت ذاته على الرمزية من خلال المعنى، خصوصاً عندما يجعل شخصاً يظهر أثناء الغناء ليصبح معنى أغنية «يا مسافر وحدك» وكأنها عتاب من الوطن للأبناء الساعين إلى الرحيل، الأمر الذي يحمل الشجن في النفوس ومزيداً من علاقة الإنسان بوطنه.
كذلك اعتمد النصار على ديكورات بسيطة كتكوين المحطة، حيث استخدم مقعداً تعيبه الضخامة التي ابتلعت معظم المسرح، إضافة إلى بعض الحقائب والتي لم تستخدم بعضها في العرض، وانطلق العرض من بداية واقعية لكنه سرعان ما أصبح يستخدم أسلوباً تعبيرياً سواء من خلال استخدام الإضاءة وكذلك الإظلام لجعل الأحداث وكأنها مشاهد متراكمة كما هي الحال في التعبيرية،
وكذلك استخدام بعض المواقف لإبراز ما بداخل الشخصيات كما حدث مع مشهد عامل النظافة وفي الوقت ذاته ركّز على رمزية الشخصيات، إلاّ أن عملية الإظلام المتكرر أفقدت العرض حيويته أحياناً، بينما لعبت الإضاءة متعددة المصادر (سفلية وجانبية وعلوية) دوراً في إبراز الصورة الجمالية والتركيز على الشخصيات وتأكيد البعد النفسي لها.
ورغم الحالة الرمزية التي انطلق منها العرض طارحاً رؤية عن الوطن، إلاّ أن أسلوب استخدام الأغاني وتنوّعها – وكذلك عمومية الملابس وعدم تحديدها لمكان بعينه – جعل الموضوع أكثر إنسانية وشمولية تاركاً الفرصة للجمهور لتأويله حتى أنه يصل بنا إلى أنّ همّ المخرج ليس الوطن الأم فحسب، بل الوطن الأكبر وهو الوطن العربي، ما يؤكد على الشعور الوطني للمخرج.
أما التمثيل في العرض فكان نقطة تحتاج إلى المراجعة، إذ إن معظم الممثلين لم يتمكنوا من السيطرة على الانفعالات الداخلية والحسّية فطغت على الأداء الصوتي الذي أبهم بعض الجمل،
كذلك عدم القدرة على التنويع في الصوت فأصبح الأداءعلى وتيرة واحدة، ولولا طبيعة الموضوع لانفلت الإيقاع العام الذي بدا جميلاً في مشاهد الحارس المتسلط الذي يعتبر محوراً للعرض وطرفاً في الصراع الذي يواجهه الجميع لتأكيد مشكلاتهم، فهي مشكلات مع الحارس الذي يسعى إلى تطبيق القانون، فرأيهم أن القانون وضع لينفذ، لكنهم يرون أنه حائر يسعى إلى المنع ولسلبهم إنسانيتهم وحريتهم.
قسم النقد والأدب
المعهد العالي للفنون المسرحية *
المصدر “الراى”
قم بكتابة اول تعليق