
حين تدخل البلاد في منطقة رمادية غائمة، فإن الأمر جد لا هزل فيه، وإن القلوب ليهزها طائف يطوف أرجاء البلاد ينثر مخاوفه هنا ونذره ينثرها هناك..
وبلاد اسمها «الكويت» لها حبٌ من نوع آخر.. وعليها خوف من نوع آخر.
لست بذلك أضع بلادي فوق رؤوس البلدان الأخرى من حيث الكمال والرقي والتقدم وجمال الطبيعة والجبال الخضراء والأنهار الجارية والأشجار الوارفة ذات الثمار، بل هي لعمري أفقر بلاد الأرض من حيث الجماليات والمكونات الطبيعية الجاذبة الإنسان للعيش في نعيمها، وما هي إلا صحراء متربة مغبرة لا شجر في أرضها ولا نبت ولا ماء.. ولا فنن يترنم عليه بلبل.. ولا غصن رطيب ترشف من نداه نسائمها.
ولكن حب الوطن يربو في قلوب أبنائه على غير تلك الرشا الطبيعية، الوطن يربو في قلوب أبنائه على وشائج حاكها الزمن في تلك القلوب.. وبنت فيها بيوتا من حب ووفاء وعهد بالولاء التام.
ولا أظن ولا غيري يظن أن هذا الوقت العصيب في عمر الوطن يحتاج منا إلى مداهنة ومجاملة وطأطأة رؤوسنا حذر العاصفة الهوجاء، ولا هو في الوقت ذاته فرصة للهيجان والإنفلات والتحلل من قيم الخصومة الشريفة والاختلاف الحضاري الذي يهدف إلى بلوغ الحقيقة من أجل البناء لا من أجل الهدم وصرع الخصم.
وأخطر الأخطر أن يتحول اختلاف الآراء في الشأن العام إلى خصومات شخصية تهدف إلى الإلغاء والإقصاء..وإلى احتكار الرأي من أجل التفرد في الساحة.. والتسيد في القرار.. والتوحد في سيادة الرأي الواحد.. وإعلاء الصوت الواحد.
وأطلب – برجاء المواطن والإنسان – من كل كويتي أن يعطي لنفسه فرصة كافية لقراءة الأحداث بعين فاحصة وبنظرة إنسانية وحيادية للحدث الذي عاشته وتعيشه البلاد منذ صدور المرسوم الأميري بتغيير آلية التصويت في انتخابات مجلس الأمة ليحدد موقفه بإرادته هو وليس انقيادا وراء رغبات غيره من المعارضين للمرسوم والذي – ربما يعارضه بعضهم – لأغراض خاصة بهم هم.. وليس لأسباب موضوعية.. أو أنهم ربما انقادوا وراء رأي رافض للمرسوم مؤسس على نظرة قد تكون غير صحيحة ولكن صاحبها يميل إليها ويعتنقها.
والاختلاف أمر طبيعي وبالذات في الآراء الدستورية والتي هي محل خلاف شبه دائم بين الخبراء الدستوريين كأي قضية خلافية أخرى يكون لكل فريق رأي فيها يختلف عن رأي الفريق الآخر، والآراء تختلف ولا تتوحد في معظم الأمور وهذا أمر محمود لا مذموم.
ولقد أجمع كثير من الخبراء الدستوريين بصحة المرسوم ودستوريته وذلك استنادا إلى نصوص الدستور نفسه.. ونحن – الذين لا تعاطي مهنيا لنا بالدستور نتلمس الحقائق ونتوصل إليها بالقياس على أحداث سابقة، ومن هذه الأحداث صدور مرسوم ضرورة بتغيير الدوائر الانتخابية من عشر دوائر إلى خمس وعشرين دائرة والذي جرت بناء عليه انتخابات عام 1981، وعمل به حتى عام 2006.
ولم يحدث صدور ذلك المرسوم صخبا ولا فوضى ولا مسيرات ولا تجمعات ولا احتجاجات تصل حد التصادم، رغم تحفظ الكثيرين أو رفضهم له والتشكيك بدستوريته، وهو المرسوم – ذاته – الذي وصل من خلاله إلى مجلس الأمة كثير من المحتجين على مرسوم آلية التصويت.
ويقول الدكتور «هشام الصالح» ويذكّر بصدور مرسوم ضرورة في عام 2008 تناول أيضا آلية التصويت ونص على تحويلها من النظام اليدوي إلى النظام الآلي.. ولم يتحدث أحد في وقتها عن عدم دستورية ذلك المرسوم ولم يشكك به أحد!
إذن لماذا صخب البعض وضجوا وجرّوا وراءهم ذوي الزنود الثائرة المتأهبة.. وكأنما قد عصف بالبلاد حدث جلل..أو أن الدستور مُس بسوء..
***
إن السياسة ليست مغانم ومكاسب دائمة، ومن يحسبها كذلك فعليه أن يصحح نظرته إليها.. وعليه أن يقدر أنها قد تأتي بالخسائر أحيانا وتخالف هواه، والسياسي الماهر والمحنك عليه أن يأخذ ذلك في حسبانه، كما أن عليه ألا يظن السياسة ربيعا ناعما.. وطريقا مفروشا بالورود دائما، وباختصار هي كالتجارة، ربح وخسارة!
لقد نهج المعارضون لصدور المرسوم في بداية الأمر نهجا سليما وحضاريا وراقيا حين أعلنوا انهم سيقاطعون الانتخابات ترشيحا وتصويتا، ولقد أكبر الجميع فيهم هذا الموقف وباركوه لما ينطوي عليه من التزام بحدود اللعبة السياسية والالتزام بأطرها. ولكن هذا الربيع الجميل الأخضر لم يدم سوى أيام باهيات، بيضاء لياليها، ثم انقلب الأمر رأسا على عقب وغاب وجه الكويت عن أرضها وارتجفت قلوب أهلها ونامت نواطير الضمائر في قلوب بعض أهلها. فحدث الشطط والزلل والجلل من محدثات الدنيا وجلبة لياليها.
لماذا حدث ما حدث؟
وهل السبب يؤدي إلى هذه النتيجة التي آذت مشاعر الكويتيين وبعثت الخوف يتدفق في قلوبهم على بلادهم التي ما خذلوها يوما وما خذلتهم هي حتى في أزمتها الكبرى.. أزمة احتلالها حيث كانوا كراما معها وكانت معهم أكرم وأكثر وفاء!
هذه الكويت وهؤلاء الكويتيون الذين لم يستطع صدام حسين بكل ما في قلبه من غل أسود وحقد متحجر وكره مقيم وتجبر شيطاني وتسلط مجنون.. أن يجعلها تركع له أو ترفع رايته.. أو أن يجد بين الكويتيين كويتيا واحدا يقول له لبيك وسعديك..كيف ترتجف اليوم بلا سبب يؤدي إلى هذا الارتجاف!
ليس كل اجتهاد مصيبا.. والذين اجتهدوا في تفسير مراسيم الضرورة بين من يراها صحيحة صائبة ومن يراها غير ذلك.. هم بالتأكيد يجتهدون ولاء للكويت ولا يجتهدون ضدها.. ويجتهدون انتصارا للدستور ولا يجتهدون ضده..وكلا الفريقين يستحقان الشكر على اجتهادهما..وكل اجتهاد مشكور.. حتى وإن لم يكن مصيبا.
***
في عام 1999 أصدر أميرنا الجليل الراحل الشيخ جابر الأحمد وبعدم وجود مجلس الأمة – مرسوم ضرورة يقضي بمنح المرأة الكويتية حقوقها السياسية..ورغم نبل المقصد من وراء ذلك المرسوم.. فإن مجلس الأمة أسقطه..وصوت ضده من الأعضاء من هو مؤمن بفحواه ومضمونه ومؤيد لحقوق المرأة السياسية.. ولكنه لا يرى أن تجيء من خلال مرسوم ضرورة.. التزاما منه بالدستور أو لتفسيره هو للدستور وتقديره وفهمه لمراسيم الضرورة.
أذكّر بهذا الحدث وأشير إليه.. متمنيا لو جاءت ردود الفعل على مرسوم تعديل آلية التصويت على النهج ذاته وبالطريقة الدستورية عينها..
فهل كنا حضاريين ودستوريين عام 1999 وصرنا على غير ذلك عام 2012؟
ليس مفهوما لماذا يغيّب الأخوة المحتجون على صدور «المرسوم الضرورة» الحقائق ولا يتعاملون بها ومعها.. ويتنكبون بدل ذلك طريق الهيجان والصراخ ولي أعناق تلك الحقائق عنقا في إثر عنق.. وكلما أطلت حقيقة برأسها لووا عنقها وربما حزوا رأسها!
هل مثل هذا الأسلوب يخدمنا ويخدم بلادنا أم أنه فرصة سانحة للانتهازيين والصيادين في الماء العكر والباغين بنا وببلادنا شرا كي يشعلوا الحرائق في القلوب ويفرقوا أبناء الأسرة الواحدة وينصبوا الشراك لتصيد الأبرياء وإسقاط الصالحين وصرف أنظار الناس عما يجب أن يكون محل اهتمامهم!
هل يستحق الأمر كل هذه الجلبة والضجيج والصدام والشقاق والتنافر وتغييب الحقائق بسوء نية..واختراع قصص وهمية تنسجها خيالات مريضة تريد زرع الإنشقاق وإثارة الفتنة!
إن ما حدث لم يكن إبطال الدستور ولا إيقاف العملية الديموقراطية ولا إلغاء الانتخابات.. حتى تكون ردات الفعل بمثل هذا الحجم الجبار الجرار!
ماذا لو سألنا غريب.. ماذا بكم أيها الكويتيون.. وما الذي حل بكم.. وعلام أنت مختلفون؟
ماذا نقول له؟
هل يصدقنا لو قلنا له إننا نحرق بلادنا ونمتشق سيوفنا ضد بعضنا..تحمحم خيلنا في ساح الوغى.. خلافا على أمر دستوري.. وعلى مرسوم ضرورة قد يصدق عليه مجلس الأمة أو يرفضه؟ وحسب ما ينص الدستور!
ألن يبهت ويصعق ويفغر فاه وقد يسقط مغشيا عليه..ويتهمنا بالترف الديموقراطي!
لماذا لا تهدأ النفوس وتلجأ إلى السكينة والهدوء والبناء والتعايش السلمي بين أفراد الوطن الواحد؟
لماذا يحتكر فريق منا الوطنية لنفسه ويخون الآخرين؟
لماذا لا يؤمن البعض أن الكويتيين أحرار لا يستعبدون.. وأنهم أحرار في مخالفتهم لرأيه..ولا يكونون خونة وأتباعا وأبواقا إن لم يسيروا في ركبه ويهتفوا بحياته ويرفعوه على أكتافهم؟
لماذا لا يقدم كل منا مصلحة وطننا على مصلحته الخاصة؟
ولماذا لا يذوب الفرد في المجموع ويساوي رأسه برؤوسهم؟
ولماذا يسعى جاهدا ومدمرا ان يتميز عن غيره ويرى الآخرين أصغر منه.. وهو وحده الأجدر والأعلى كعبا؟
إن طغيان الأنا في بعض النفوس مدمر للكل..والأناني بطبعه لا يأبه بالآخر..ولا يكترث بالثمن الذي يدفع في سبيل تحقيق ذاته وبلوغ مأربه أيا ما تكون النتائج!
إنه نوع من الغطرسة والغرور والتجبر وعلو الأنا في الذات.. وهو ما يجب ان يتنبه إليه الشبان المتحمسون السائرون بحسن نية في مواكب من تجلت فيهم الأنانية.. وسيطر عليهم حب ذواتهم إلى درجة مهلكة للمجموع وبانية لذواتهم هم فقط!
إننا لا نرضى لأبنائنا الإنسحاق والتبعية..
وفي ذمتي وفي ضميري.. أنا لا أنظر إلى الاخوة المحتجين الرافضين لمرسوم الضرورة إلا نظرة احترام وتقدير..ولا أشكك في نزاهتهم الشخصية ولا الوطنية..بل أراهم بيارق خفاقة في سماء الوطن. وجل ما أراه أنهم اجتهدوا في المكان الخطأ وشطوا كثيرا في اجتهادهم..والشطط يقود إلى الخطأ..وذلك ما أربأ بهم وانزههم عن بلوغه.. وليشاركوني دعائي لهم..بأن يصوّب الله اجتهادهم..ويسدد في طريق الرشاد خطاهم..
***
اللهم.. هذي الكويت وديعة بين يديك، فارحمها واطفئ نارا قد تصيبها.. وادحر كل باغٍ شرا بها.
واحفظ اللهم بلادنا..كل نفس فيها..وكل نقطة دم في جسد كل من يسير على ترابها.. وكل حجر قائم عليها..
اللهم صف النفوس.. وباعد بيننا وبين الفتانين.. واهزم أبالسة البشر المتلبسين أثواب التقوى..
ويا أيها الكويتيون.. اختلفوا بمحبة..ولا يحقّرن أحدكم أخاه.. ولا يكرهه.. فإن الأوطان لا تبقى إلا بالمحبة.
katebkom@gmail.com
المصدر جريدة الانباء
قم بكتابة اول تعليق