هديل الحويل: الغريزة الأساسية

يختلف الكثيرون في تعريفهم للأمومة, فيراها البعض غريزة تشترك مع غيرها من الغرائز الإنسانية في إلحاحها, بينما يدفع البعض الآخر برأي ينافي سابقه بحجة أن هناك الكثيرات من النساء اللواتي يحتجن للمأكل والمشرب وللجنس بينما لا يحتجن ولا يرغبن بأن يصبحن أمهات. فإذا ما سلمنا بأننا مختلفون في وضع عنوان لحالة الأمومة, فكيف بنا أن نصفها أو نشرحها أو نصنف نساء الأرض من الأمهات بناء على تصنيف قائمة واحدة غير متغيرة? فهل من أوت وأشبعت وكست أم ناجحة بتصنيفنا الساذج? وهل من أحبت وحضنت وفشلت في تأمين عيش طفلها فتركته لمن يقدر أن يعيله أم فاشلة بتصنيفنا الأكثر سذاجة?
ربما كانت الأمومة رباطاً واحداً يتشابه عند جميع الأمهات مهما اختلف لونه وطوله, أبيض كان وطويلا أو أسود وقصيرا أو أحمر متوسطاً, إلا أنه يختلف بسمكه ومدى شدته وهذا في رأيي قائم (تماما) على اختيار الأم, فسواء كانت الأم هي الوالدة أو الحاضنة فلا فضل لواحدة على الأخرى في الرباط نفسه, فكلتاهما أم ولكن لكل منهما أن تختار أن يكون رابطها بأطفالها شديداً أو ضعيفاً.
قد نتساءل ما المعيار الذي يحدد شدة رباط أم بأطفالها من لين وضعف رباط آخر لأم أخرى? في الحقيقة لا يوجد معيار محدد أو ملموس فالنتيجة العملية أثبتت أنه رغم امتعاضنا أحيانا من أمهات أهملن في حق أطفالهن عليهن فانتقدناهن بالتلميح والتصريح, إلا أن الأطفال يظلون تحت وطأة كل اختبار وفي خضم أي ظروف يختارون أمهاتهم ولا يفاضلون بينهم وبين أحد أبدا. فالنتيجة إذا مفادها أن رباط الأمومة موجود ويظل حقيقة, وإن عجزنا نحن عن رؤيته أو أسأنا في تقديره, فلا يقطع رباط أم عن أطفالها إلا الفراق, وحتى فراق الدنيا يعجز أحيانا عن فك جميع خيوط الرباط فيظل الأطفال رغم رحيل أمهاتهم يتعلقون بأطراف حبل قديم.
بقي علينا أن ندرس بعض العوامل التي من شأنها أن تشد من رباط أم بطفلها, فإذا كنا قد اتفقنا- بشكل افتراضي- على أن الأمهات يرتبطن بأطفالهن بشكل أو بآخر, واتفقنا كذلك على أن شكل العلاقة يختلف باختلاف قوة وشدة الرباط, فما الذي من شأنه أن يقوي هذا الرابط? أظن شخصيا عن قراءة أولا وقناعة ثانيا وتجربة ثالثا أن بعض ما من شأنه أن يشد من قوة رباط أي أم بأطفالها هو التالي:
أولا: الرضاعة الطبيعية, فمتى ما اختارت الأم عن إدراك بأبعاد وثمن اختيارها أن ترضع صغيرها بعضا من روحها ووقتها غير المشروطين كان للرابط أن يقوى ويشتد في وجه تحديات الأم العصرية. فلا يوجد التزام أقوى ولا أشد على أي إنسان قبل أن يكون امرأة من أن يلتزم بملاصقة طفل طوال الوقت خوفا عليه من جوع أو خوف أو عطش أو حاجة, ومتى ما التزمت الأم بإرضاع صغيرها من جوفها أصبح -تلقائيا- أسهل عليها فهمه لكثرة احتكاكها به حتى أوشكت أن تتكلم لغته.
ثانيا: الإعالة الأولى, وبها أعني أن تكون الأم هي المعيل الأول وإن لم تكن الوحيد لجميع احتياجات طفلها المعنوية والجسدية, فلا تعتمد كل الاعتماد على أحد أيا كان في تأمين أساسيات العيش لطفلها, كماذا يأكل ومتى, وأين ينام ومتى, وماذا يلبس ومتى, وإلى أين يذهب ومتى. فإن أوكلت الأمر إلى غيرها ضعف فهمها لاحتياجات طفلها تدريجيا, وعجزت عن فك رموز الرغبة بالراحة عن الجوع أو العطش الأمر الذي من شأنه أن يضعف من رباط التواصل ويبطل من سرعة فهم الأم لطفلها.
ثالثا: السفر مع الأطفال, فبعد سنة أو اثنتين يكبر الأطفال ويبدأون بتشكيل ملامح لشخصية ترفض الالتصاق وإن احتاجته فيهمون باستكشاف أنفسهم والعالم مع أناس آخرين, واختيار السفر مع الأطفال رغم تحدياته إلا أنه يعزز ما في نفس الطفل من رغبة بالاستكشاف والابتعاد الذهني عن الأم, وفي الوقت نفسه يظل الطفل مطمئنا لوجودها, فيعبث بالرباط بين شد ورخي لكنه عبث مسل وخيار مريح, طالما آمن بوجود أمه على الطرف الآخر من الحبل, فيرقص على الحبل ذهابا وإيابا على قناعة أنه لن ينقطع به ولن يهلك معه أبدا.

h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.