
أوضحت أزمة مرسوم الصوت الواحد في الكويت عمق أزمة الديموقراطية في بلد يعاني من التخلف الاجتماعي والاقتصاد الريعي. ولا شك أن الأزمة بينت غياب الفكر الليبرالي في المجتمع السياسي في البلاد، وتراجع القيم الديموقراطية التي تؤثر حرية الرأي واحترام التوجهات المتباينة بين مختلف الأطراف. وكما هو معلوم أن الأزمة التي بدأت منذ حكم المحكمة الدستورية ببطلان مجلس الأمة المنتخب في فبراير من هذا العام، نتجت عن مواقف أعضاء مجموعة ما أطلق عليها بالأغلبية، التي رفضت ذلك الحكم، وأصرت على إجراء انتخابات فورية بموجب القانون رقم 42 لسنة 2006 الخاص بالدوائر الانتخابية، وكما هو معلوم أن هذه المجموعة تشكلت من أعضاء سابقين ينتمون لتيارات التأسلم السياسي وعناصر ذات نزعات قبلية وعناصر سياسية أخرى ذات توجهات اجتماعية محافظة، كذلك فقد التحق بهؤلاء العديد من العناصر الأخرى من ذوي التوجهات الشمولية والمتطرفة، وقد أغلق هؤلاء كل منافذ المعالجات للأزمة دون اعتبار لمتطلبات التطور السياسي في البلاد، وخصوصاً بعد صدور مرسوم الضرورة من صاحب السمو الأمير المستند على المادة 71 من دستور البلاد، ولذلك قرروا مقاطعة الانتخابات وسعوا الى إقناع المواطنين بالمقاطعة، وأقاموا التجمعات وحركوا المسيرات للتأثير على السلطة السياسية ودفع المواطنين الى معارضة ذلك المرسوم، وقد غابت في خضم هذا الصخب السياسي متطلبات تطوير الحياة السياسية والمسائل الأساسية، التي يمكن أن تعزز الحياة الديموقراطية الحقيقية في البلاد.
الثيوقراطية بدل الديموقراطية
ولا شك أن المقاطعة في الانتخابات قد أفقدت عملية التطور السياسي زخمها واستحقاقاتها، حيث غاب عن الساحة، بعد الانتخابات التي جرت في الأول من ديسمبر الجاري، عناصر التيارات السياسية المختلفة، هؤلاء كان يمكن لهم أن يطرحوا مشاريع للإصلاح السياسي تتمثل بتقنين الأحزاب والجماعات السياسية بموجب معايير متسقة مع نصوص الدستور، وكذلك تطوير الأداء البرلماني وإصلاح نظام الدوائر الانتخابية، بما يؤدي إلى عدالة في توزيعها وتمكين جميع الفئات المجتمعية من الشعور بأن النظام يمكنها من تجاوز الاستقطابات والتحالفات الفئوية المبنية على الانتماءات القبلية والطائفية. كذلك هناك أهمية لإنجاز عملية استقلال القضاء، وبما يحصن العدالة في الكويت. لكن من أهم ما اتضح خلال الأزمة أن التيارات التي زعمت أنها ذات توجهات ديموقراطية وتقدمية، مثل المنبر الديموقراطي الكويتي أو التحالف الوطني الديموقراطي، قد اصطفت مع التيارات الرجعية المعارضة، وبشكل تابع، دون مراعاة لقواعد التيار الوطني الديموقراطي ومواقف تلك التيارات الرجعية المناوئة لحقوق الإنسان، والمعادية للمرأة، والهادفة إلى تحويل الكويت إلى دولة ثيوقراطية بعيدة عن القيم الديموقراطية، التي تؤكد مدنية الدولة. ويعلم القياديون في المنبر الديموقراطي الكويتي والتحالف الوطني الديموقراطي أن الأغلبية المبطلة في مجلس 2012 قد حاولت تعديل المادة 2، والمادة 79 من الدستور، وكذلك حاولت تلك الأغلبية أن تمرر عقوبات الإعدام للمتطاولين على المقدسات الدينية، ولولا رفض صاحب السمو الأمير لهذه التعديلات والتعديات على قيم الدستور لأصبحت الكويت بمنزلة دولة طالبان.
تجاهل الرأي الآخر
إن ما يمكن استنتاجه من مواقف المنبر والتحالف هو عدم الوعي بالأهداف الكامنة لذلك التيار المعادي للديموقراطية وأهدافه بعيدة المدى، إن التمترس حول أحقية مجلس الأمة، لوحده في تعديل القوانين، أو أن متطلبات الضرورة لم تكن متوفرة في مرسوم تعديل قانون الدوائر الانتخابية، أدى إلى التحالف مع تلك القوى والانضواء تحت لواء المقاطعة. قد لا يكون التعديل على القانون المذكور مثالياً، مثل ما هو قانون الدوائر رقم 42 لسنة 2006، فهو أيضا يعاني من المثالب السياسية وانعدام العدالة، ولكن كان يمكن المشاركة في الانتخابات والطعن في المرسوم أمام المحكمة الدستورية في آن. وقد كان غياب مرشحين للتنظيمين المذكورين مأساة لقاعدة عريضة من الناخبين، الذين كانوا يهدفون لانتخاب أفضل العناصر في المجتمع السياسي في البلاد. أيضا، فإن تعامل قياديين في المنبر الديموقراطي والتحالف الوطني الديموقراطي مع العناصر التي أكدت رفضها للمقاطعة، وطالبت بالمشاركة من أجل الإصلاح من خلال الآليات الدستورية، كان ذلك التعامل بعيداً عن الممارسات الديموقراطية ومتجاهلاً لمبادىء احترام الرأي الآخر، ما أدى إلى حدوث انشقاق واسع في الحركة الوطنية الديموقراطية في البلاد، وقد أكدت هذه الممارسات والمواقف أن هذه القوى، أو التنظيمات، ما زالت تعاني من المفاهيم الشمولية التي تكرست على مدى السنوات والعقود الماضية، والتي تأسست عليها الحركات والأحزاب القومية في البلدان العربية منذ أواسط الأربعينات من القرن الماضي. ولا شك أن الشمولية في الفكر والمفاهيم السياسية والثقافية ظاهرة عربية متجذرة، يوقدها التراث والموروث، ولم تتمكن الأنظمة التعليمية على مدى العقود الماضية من تحرير العقول منها.
جمود فكري وسياسي
إن المعتقدات الليبرالية التي تأسست في أوروبا خلال القرن الثامن عشر مازالت بعيدة عن العديد من بلدان العالم الثالث، وبطبيعة الحال البلدان العربية. تؤكد تلك المعتقدات على الحرية والمساواة والحقوق المدنية وحرية الاعتقاد الديني وحرية التجارة والأعمال ومدنية الحكم، هل يؤمن قياديو المنبر الديموقراطي والتحالف الوطني الديموقراطي بهذه المبادئ، وهل يمكنهم مقاومة التيارات الإصولية والرجعية التي تعادي هذه المبادئ وتعتبر المرأة سقط متاع؟
وبالرغم من التحولات التي جرت على الساحة الكويتية، خصوصاً بعد الاحتلال العراقي الغاشم، وعودة الوعي للكثير من الكويتيين بضرورة التحرر من الفكر القومي الشوفوني، فإن تجربة المنبر الديموقراطي، ومن بعده التحالف الوطني الديموقراطي، لم تمكن من تطوير حركة سياسية ليبرالية، وظل التيار الوطني متأرجحاً ومرتهناً للمفاهيم التقليدية السابقة دون تحرر كامل. كما أن التعامل مع الاختلافات في وجهات النظر لم ترتق إلى مستوى التقاليد الديموقراطية، حيث ظلت مفاهيم التخوين وتهم العمالة هي السائدة. يضاف إلى ذلك أن هذا التيار قدم الخلاف مع السلطة على الخلافات مع التيارات المحافظة والرجعية، دون محاولة لفهم المتغيرات التي حدثت في البلاد والتحولات في فكر السلطة السياسية واقتناعها بأن إدارة البلاد يجب أن تعتمد على الدستور ونصوصه. هذا الجمود الفكري والسياسي قاد التيار الوطني إلى حال من التهميش والتقوقع. لذا فإن قيام حركة ليبرالية ديموقراطية حقيقية في البلاد بات مستحقاً، وعلى كل المهتمين إثراء الحوار حول هذه المسألة من أجل تطوير الحياة السياسية.
عامر ذياب التميمي
(باحث اقتصادي كويتي)
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق