يرى بنك الكويت الوطني أن الأنظمة السياسية التي كنا نظن أنها للأبد شهدنا كيف سقطت في يوم واحد، وأنه بات من الصعب جدا التوقع ومعرفة ما سيحدث في المستقبل او ما سيدوم طويلا إن كان على صعيد السياسات العالمية والاقتصادية منها.
وفي ندوته الاستثمارية السنوية المخصصة لعملاء مجموعة الخدمات المصرفية للشركات بعنوان «توجهات الأسواق العالمية في عام 2013» في فندق الشيراتون أمس، قدم رئيس مجموعة الاستثمارات والخزينة في بنك الكويت الوطني جورج ريشاني عرضا شرح من خلاله التحديات التي تواجه مستقبل الأسواق العالمية في عام 2013 في ظل هذه الأوقات غير المسبوقة والمتغيرة، معتبرا ان التحديات الحالية التي تواجه الأسواق العالمية مختلفة ومتشابكة، وتنقل بين العناوين الرئيسية التي طغت على العام الماضي مبيناً كيف أن بعضها كان امتداداً لعناوين عام 2011 وبعضها الآخر كان ايضا امتدادا لبدايات الأزمة العالمية في عام 2008.
وأكّد ريشاني أنه لا يوجد فرق كبير بين السياسة والاقتصاد اليوم، حيث أنهما امتزجا بشكل لافت ليصبحا وجهين لعملة واحدة. كما لفت إلى أن الأخطاء في السياسات قد تؤدي إلى ركود في العالم المتقدم، خصوصاً أن إجراءات التقشف هناك قد تخفف احتمال النمو في عديد من الدول المدينة التي تحتاج إلى نمو لمعالجة مشاكل ديونها.
ولفت ريشاني إلى أن أفضل نصيحة يمكن تقديمها في عالم المال والأعمال هو تعزيز ادارة المخاطر دوما، للمضي قدما نحو الأفضل.
وأوضح ريشاني أن بعد تدهور أسواق الائتمان لم يبق سوى حل واحد طويل الامد وهو تحويل سنوات الإنفاق إلى سنوات شد الأحزمة في الدول المدينة عن طريق استخدام إجراءات تقشف وبرامج إصلاحية طويلة الأجل مع تحمل آلام هذه البرامج والإجراءات وقال: «إن المشكلة التي يعانيها صناع السياسة هناك هو أنه لا يوجد حل سحري اليوم، فويل إن شدّوا الأحزمة وويل إن استمروا بالإنفاق عند مستوياته الحالية، لأن في الأول إضعافا للنمو الاقتصادي في المدى القصير، وفي الثاني إضعافا للميزانيات المدينة لهذه الدول». وشرح ريشاني صعوبة الحلول معتبراً أن المشاكل التي يواجهها العالم الغربي ليست مشاكل دورة اقتصادية عادية بل هي نتيجة مشاكل بنيوية أساسية طويلة الأجل.
إجراءات وقتية
وأوضح كيف أن المشاكل السياسية وحالة عدم اليقين القائمة اليوم في الكثير من الدول قد تؤدي إلى استمرار الوضع على ما هو عليه لمدة غير قصيرة. وقد يكون للجمود السياسي في الدول الغربية كأوروبا والولايات المتحدة ولسياسات الحلول المجتزأة والمؤقتة قد أجلت الأزمات المالية الضاغطة وربما قد تكون أنقذت العالم من احتمالات الكساد ولكنها أجلت أيضاً الألم المحتوم المصاحب لأي عملية تصحيح جدية للأوضاع الاقتصادية في هذه الدول، فالحلول والإجراءات المستخدمة في السياسات النقدية والمالية هناك هي إجراءات وقتية وقد تحتاج هذه الدول إلى عوامل مساعدة ومنشطة أكبر مما هو موجود لإعادة المسار الاقتصادي فيها إلى طبيعته.
وشرح ريشاني أن الحلول والإصلاحات طويلة الأجل رغم ما تحمله من تضحيات وآلام في المدى القصير، تحتاج إلى إرادة ومقدرة سياسية، بالإضافة إلى بعد نظر وضرورة تخلي المسؤولين عن المصالح الانتخابية الضيقة.
وأوضح ريشاني مدى حاجة العالم اليوم إلى حلول غير مسبوقة لمواجهة الأزمة غير المسبوقة التي يواجهها العالم الغربي. فبالرغم من الإجراءات الكبيرة التي تم اتخاذها في أوروبا في العام الماضي وبغم تفادي الاتحاد الأوروبي أزمة كبيرة كادت تداهمه على أعتاب بداية 2012 وتفادي منطقة اليورو خطر التفكك فإنه حذر من أن المخاطر في أوروبا لم تنته بعد وان الدول الأوروبية لم تخرج تماماً من النفق المظلم.
وأضاف ريشاني انه لا بد من إيجاد الحلول الجذرية لجوهر المشاكل في أوروبا مثل تباين مستوى الإنتاجية والتنافسية بين دول أوروبا الأساس ودول الأطراف في الجنوب. ان إجراءات التقشف لوحدها لا تكفي وتعاني محدودية تأثيرها في المدى الطويل بالرغم من ضرورتها، إذ أنها قد تعرض هذه الدول إلى المزيد من الضعف الاقتصادي في المدى القصير، وما لم يحدد الأوروبيون طبيعة المشاكل التي يواجهونها ويجدوا الحلول لها، فإنه من غير المجدي تأجيل المحتوم من الأمور.
وقال ريشاني أن تكلفة الخروج من أوروبا كبيرة جداً للدول التي ترغب بالخروج، لكنه حذّر أيضاً أن المزيد من التجاذب السياسي ما بين الدول الأوروبية وتنامي مستوى الاتهامات المتبادلة قد يبدد وقتاً ثميناً تحتاجه أوروبا للخروج من نفقها المظلم. ومن هذا المنطلق، لم يستبعد ريشاني استمرار حالة عدم الاستقرار في أوروبا.
ارتفاع الدين العام
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فلحظ ريشاني تحسناً قليلاً في أرقام النمو الاقتصادي في الأشهر القليلة الماضية ورأى أن أسواق الأسهم في الولايات المتحدة قد حققت أداء حسناً العام الماضي. لكن في المقابل يجد ريشاني أن هناك أموراً جوهرية في بنية الاقتصاد تبقى دون حلول، ومنها مستوى الدين العام المرتفع والكميات الهائلة للمطلوبات الحكومية غير الممولة مثل الرعاية الاجتماعية والصحية، وتقلص قطاع إنتاج السلع وزيادة الانشقاق السياسي ما بين الديموقراطيين والجمهوريين إلى حد المناطحة غير المجدية، بالإضافة إلى القنبلة الموقوتة بالنسبة للتغيير الديموغرافي الكبير مع دخول اعداد هائلة من مولودي الطفرة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى عمر التقاعد خلال العقدين القادمين.
وبالرغم من هذا، يستبعد ريشاني أن تخسر الولايات المتحدة موقعها كملاذ آمن مع استمرار تربع الدولار الأميركي على عرش عملة العالم الاحتياطية، وذلك لعمق ومرونة هذه الأسواق وتمتعها بقوانين تحمي الاتفاقات والعقود المبرمة، مع أن هذه الميزة قد تأثرت نسبياً العام الماضي بالتناطح العقيم للسياسيين حول الميزانية.
وأوضح ريشاني أن الولايات المتحدة تقترض حوالي 40 سنتاً لكل دولار تنفقه، فيما تقوم بجني 60 سنتاً من الضرائب، والأسوأ من ذلك كله أن قيمة الاستدانة هذه تساوي كمية الإنفاق الاختياري بما فيها الإنفاق العسكري. وشكك من قدرة الولايات المتحدة على الاستمرار في هذا النمط في المدى الطويل ما لم يتم إيجاد حلول جذرية لذلك، إذ قد تستيقظ الأسواق يوماً ما لمعاقبة الحكومة الأميركية بسبب ديونها المتراكمة وتضغط على الدولار برغم مركزه المميز كما قد يمتنع المستثمرون عن تمويل هذه الديون ما لم تحمل أسعار فائدة أعلى، لكنه أشار إلى أن الدولار سيستمر من الاستفادة في المدى القريب من استمرار الأزمة الأوروبية.
كما لفت ريشاني الى أن الحلول تكمن في سياسات تشجع الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة على الادخار مقابل تشجيع الدول النامية على الانفاق، وأوضح أن التغيير في القيادة الصينية مؤخراً قد يؤدي الى اتخاذ اجراءات تصب في هذا الاتجاه وتشجع على استبدال الاعتماد على الاستثمارات الخارجية والصادرات بالاعتماد أكثر على الانفاق الفردي.
وأوضح ريشاني أن الطلب على الدولار يزداد كلما زادت موجات تجنب المخاطر وارتفاع منسوب الخوف ويقل الطلب عليه كلما زاد ركوب المخاطر، وقد توقع أن يستمر العمل بهذا النموذج هذا العام أيضاً رغم وجود مؤشرات مبكرة منذ التقلب الحاد في المزاج الاستثماري الذي شهدناه العام الماضي قد يتقلص هذا العام.
أما في ما يتعلق بالسياسات النقدية في العالم، فقال ريشاني ان أسعار الفائدة في العالم ستبقى منخفضة لفترة طويلة قادمة وذلك لغياب مخاطر التضخم اليوم ووجود مخاطر الركود الاقتصادي، ولتعهد معظم البنوك المركزية ببقاء أسعار الفائدة متدنية، خصوصا مجلس الاحتياط الفدرالي، والتي أشارت الى عدم رفع أسعار الفائدة ما لم ينخفض معدل البطالة الى %6.5 وعدم ارتفاع معدل التضخم المتوقع لعام أو عامين ما فوق %2.5.
ولحظ ريشاني أن أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل في الولايات المتحدة قد هبطت الى ما دون الصفر وذلك في محاولة من السلطات النقدية لزيادة الطلب على الأصول الأخرى ذات المخاطر كالأسهم والسندات ولتخفيف العبء عن الحكومة لسداد هذه الديون.
التسهيل الكمّي
ولفت الى أن سياسة تخفيض أسعار الفائدة لم تنفع، ولذلك تبنت معظم البنوك المركزية الكبيرة سياسات نقدية غير اعتيادية ومنها سياسات التسهيل الكمي والتي في حقيقتها لا تتعدى كونها عملية طبع غير محدودة للنقود، مما ساعد على سبيل المثال مجلس الاحتياط الفدرالي على شراء سندات الخزينة لتمويل جزء غير بسيط من ديون الحكومة من دون أي تكلفة، حيث يقوم مجلس الاحتياط باعادة تسليم الفوائد المستحقة على السندات الحكومية التي يقوم بشرائها من خلال برنامج التسهيل الكمي الى الخزينة الأميركية، مما يعني أن الخزينة الأميركية تقترض من دون دفع فائدة على ديونها.
وحذر من انه لا يوجد في عالم المال والاستثمار «وجبة غذاء مجانية»، لذلك أكد أن هناك جهة ما في مكان ما وفي وقت ما ستتحمل فاتورة هذه الوجبة الغذائية الدسمة، وأن هذه التكلفة ستكون على شكل ارتفاع مخاطر التضخم في السنوات المقبلة.
وأكد ريشاني أن كل المؤشرات اليوم تشير الى غياب هذه المخاطر على الأقل في المدى القصير، كما لاحظ انه رغم التأثير الايجابي المباشر لبرامج التسهيل الكمي على أسعار الأصول الخطرة كالأسهم والسندات غير الحكومية فان تأثيرها قد انخفض وقد ينخفض أكثر في المستقبل، كما بيّن عدم تأثير هذه البرامج لغاية هذه اللحظة على الاقتصاد الفعلي، عازياً ذلك الى تقليص حجم المديونية بالقطاع الخاص من جهة، وعدم تفريط البنوك بمستوى السيولة ومعدل الاحتياطيات لديها وبالتالي عدم اقراضها بالشكل المطلوب، من جهة أخرى وتردد المقترضين، مشبها ذلك بقدرتنا على اخذ الحصان الى الماء لكننا لا نستطيع اجباره على الشرب.
كما أوضح ريشاني أن الإجراءات الجديدة المنوي تطبيقها في الأعوام القليلة المقبلة في ما يخص اتفاقية بازل 3 وتبعاتها على البنوك ودفعها إلى تقليص مديونيتها، لا تساعد كثيرا البنوك.
لا اتحاد نقديا من دون اتحاد مالي
وفي ما يتعلق بالأزمة الأوروبية، رأى ريشاني أن احد أهم أسباب تأسيس منطقة اليورو هو الاتحاد الاقتصادي، ومع ذلك يجد ريشاني انه لم يتحقق شيء من هذا القبيل حتى بعد مضي أكثر من 13 عاما على وجود منطقة اليورو. بل على العكس من ذلك، فقد ازدادت الهوة الاقتصادية خلال هذه الفترة ما بين دول أوروبا، مما أظهر بشكل فاضح أهم عيوب هذه المنطقة. ومن غير الممكن أن يكون هنالك اتحاد نقدي من دون وجود اتحاد مالي واقتصادي ومصرفي. وأضاف «إننا كلنا نعرف حب الأوروبيين للجدال لكن الأزمة أظهرت ان إضاعة الوقت الثمين اليوم على جدل لا يجدي قد يكون من الخطورة بمكان ويجب تجنبه حتى لا يفرط العقد الأوروبي دولة بعد أخرى». وأكد ريشاني أن ألمانيا وصناع السياسة فيها، وعلى رأسهم ميركل، قد يجدون في الضعف الأوروبي اليوم فرصة ذهبية لزيادة نفوذها سياسياً واقتصادياً في قلب أوروبا، وقد يطغى الفكر الاقتصادي الألماني على بقية أوروبا في المستقبل، إذ ما لم تحققه ألمانيا خلال حربين عالميتين اثنتين في الماضي قد تحققه اليوم من دون أي حرب.
وبالنسبة إلى التوقعات، رأى ريشاني أننا لم نخرج من النفق بعد وان هناك ضرورة لبعض الألم الاقتصادي في المدى القصير قبل أن تتحسن الأوضاع بشكل مستدام، فديون الماضي يجب أن تدفع، وهذا قد يأخذ وقتاً غير قصير وقد يعيق التعافي الاقتصادي، حيث توقع ألا يتجاوز النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة %2 وفي أوروبا %1، هذا إن لم ندخل في الركود الاقتصادي هناك.
وأوضح ريشاني أن التضخم هو أولا وأخيرا ظاهرة تعتمد على تضخم الأجور، مبيناً ان ذلك غير موجود الآن في الولايات المتحدة، فعندما ترتفع الأجور والمداخيل بأقل من معدلات التضخم يضطر المستهلكون إلى خفض إنفاقاتهم الاختيارية وهذا ما هو حاصل الآن هناك.
اقبلوا بعوائد قليلة
قال ريشاني إن الوضع الاقتصادي العالمي الجديد يعني قبول المستثمر اليوم عوائد أقل، وضرورة الاهتمام بالحفاظ على رأس المال أكثر منه بحجم العائد، كما يعني نموا اقتصاديا عالميا اضعف والمزيد من حالة عدم اليقين وتحول القوة الاقتصادية تدريجياً من الغرب إلى الشرق وزيادة في القوانين في الأسواق المالية. وقال انه برغم تخفيض البنوك المركزية العالمية من احتمالات حدوث الكساد الاقتصادي في المدى القصير إلا ان السياسات النقدية غير التقليدية هذه تحمل في طياتها مخاطر كبيرة في المدى الطويل، فعلى سبيل المثال لا توجد خيارات عديدة لدى مجلس الاحتياط الفدرالي لعكس هذه السياسة عند الحاجة سوى رفع أسعار الفائدة.
توقعات
رأى ريشاني نمواً اقتصادياً ضعيفاً في الولايات المتحدة كما توقع أن تعاني المملكة المتحدة من مخاطر الركود الاقتصادي مرة أخرى إلى جانب معاناة اقتصادية في أوروبا ومشاكل في اليابان ونمو بطيء في الدول النامية. أما بالنسبة إلى الدولار فهذا يعتمد بشكل كبير على الأحداث في أوروبا، فإذا هدأت الأوضاع الاقتصادية هناك، قد يتعرض سعر صرف الدولار إلى ضغوط للانخفاض، لكن ريشاني قال إن ذلك أمر مستبعد اليوم لتوقعه استمرار استفادة الدولار من وضعه كملاذ آمن.
كما توقع ريشاني استمرار انخفاض أسعار الفائدة على الدولار الأميركي للفترة المقبلة لكنه حذر من مخاطر الأخطاء في السياسة النقدية، ولذلك توقع أن تكون الفترة المقبلة غير مستقرة كما كان الوضع عليه العام الماضي. ودعا ريشاني المستثمرين إلى ضرورة الحفاظ على ثرواتهم بدل البحث عن أساليب لرفع العائد على أموالهم بالدخول باستثمارات غير مضمونة، فعودة رأس المال أهم من عائد رأس المال، وأوضح أن الأصول الحقيقية قد تجد مكاناً لها في محافظ المستثمرين ومنها العقار.
المصدر “القبس”
قم بكتابة اول تعليق