الإنساني صفة تلازم الطبيب، اذا كان انسانياً في معالجته لمرضاه. أما الطبيب الثائر فليست مألوفة دائماً، لدى الكثير من الأطباء. طبعاً، من مزايا الطبيب أن يكون عالماً، لأنه، لا يتمتع بهذه الصفة، الا اذا كان بحاثة.
وفي الطب الحديث، بات الانسان رائداً للعلم، وليس بالضرورة ان يثور على الرتابة، الا انه عالم ولا شك في هذه الأمور.
كان فيكتور هيغو الشاعر الفرنسي الكبير، يحلو له أن يكون ثائراً وقصاصاً وانسانياً، واختار كتابة البؤساء ليمارس الذهنية الثورية والإنسانية ولو لجأ الى السطو على أملاك الأغنياء، ليطعم طفلته كوزيت، ويأتي اليها بالثبات، ويدرأ عنها البرد، ويخلع عليها الدفء.
وهذه العوامل حدت بالبروفسور فيليب سالم، الى ان يدرس الطب، ويتخصص في مقاومة مرض السرطان، ويروى عنه ان امرأة مريضة كان المرض الخبيث يفتك بها، فذهب لعيادتها، وهي على فراش الموت، فدعته اليها وطبعت قبلة على جبينه، وبادرته بأنها ستغادر الحياة الدنيا بعد يومين. وبعد ذلك صمم على دراسة الطب، ومكافحة المرض الخبيث ومقاومته، واضحى حلمه أن يصبح قاهر السرطان.
ولا أحد يدري لماذا اغفلت الزميلة مهى سماره صاحبة كتاب فيليب سالم، الثائر والعالم والإنساني صفة المقاوم او القاهر وهي تروي قصة طبيب من الكورة، ثورة العلم والادب والفكر، عن ان فيليب سالم الذي أنجب كوكبة من الشباب وزرعهم في لبنان والعالم، بينهم نائب رئيس حكومة لبنان ووزير خارجيتها في العام ١٩٨٢، ورئيس جامعة البلمند الدكتور ايلي سالم، والدكتور انطوان سالم طبيب الامعاء وسواهم.
للدكتور فيليب سالم اسلوبه، في معالجة مرضاه. وهو باحث وعالم ومفكر وأديب وكاتب سياسي احياناً، ومحب لوطنه وللناس دائماً، وصاحب أفكار فلسفية وسياسية. وموقفه السياسي بالنسبة الى لبنان، ينطلق من العقل ومن القلب، ومبني على مبادئ العدالة والمساواة.
هو الآن له جمهوريته الخاصة، في هيوستن بولاية تكساس الأميركية واختاره الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، مستشاراً له واغدق عليه الرؤساء الأميركيون الأوسمة، لكن محبته وولاءه واخلاصه معقود لوطنه لبنان ولبلدته بطرام في الكورة. هو الآن يقوم بترويض السرطان انسانياً، وربما نفسياً، ويجوب العالم باسطاً فيه رؤاه وأفكاره وعلمه في مكافحة المرض الخبيث، وصراعه مع الداء الخبيث اشبه بمغامرة والتجاوب انسانياً مع طرائقه في مقاومة المرض، هو الدواء حيث هذا المرض داء لا دواء له قبل فلسفة فيليب سالم في قهره.
يروي فيليب سالم قصصاً شتى عن فرح الشفاء وسعادة النجاح في مقاومته لمرض العصر. الا ان ما هو أهم من ذلك، عدم اليأس من مقاومته، والمثابرة في العلاج. فهو يروي قصة شابة كويتية اسمها علياء، كانت في العشرين من عمرها، ومصابة بسرطان الدماغ. عالجها في الولايات المتحدة لمدة عامين وشفيت شفاء تاماً. وتقول مهى سماره انه في احد الأيام، رن جرس الهاتف في بيته. كانت على الخط الآخر صديقة علياء، وهي مواطنة كويتية ايضاً تدعى عبير. وقد اخبرت الدكتور سالم انها مصابة بسرطان الجنين، وهي تعالج في أهم المراكز لمعالجة هذا المرض في لندن، الا ان الاطباء نفضوا أيديهم منها، وشعروا ان لا امل في انقاذها، وتمنت على البروفسور سالم ان يقبلها في مركز سالم للسرطان في هيوستن، وقالت له: لقد شفيت صديقتي علياء، ولربما يمكنك شفائي.
كانت عبير شابة قوية الشخصية، حادة الذكاء، لا تتجاوز الثلاثين من العمر، وهي أم لأربع بنات. عقد سالم اجتماعاً للمشورة الطبية ودعا أكثر من ٢٢ طبيباً من مركز تكساس الطبي الى مشاركته في البحث. لكن السيدة عبير أصرّت على الحضور وسماع رأي الأطباء بحالتها. ٢٠ طبيباً من أصل ٢٢ أكدوا ان لا أمل في معالجتها. إلاّ انه، عند انتهاء الجلسة، توجهت عبير الى سالم وقالت له: بما انني قريبة من الموت فما هو الضرر من معالجتي. إنني أترك لك الخيار لمعالجتي بالطريقة التي تراها مناسبة. عند ذلك ابتدأ سالم بالعلاج وكان المرض منتشراً في جسمها، وكان الدماغ مصاباً أيضاً. بعد سنة من العلاج تعبت عبير وزوجها تعب أيضاً وقررا وقف العلاج. قال سالم لهما إن هذا القرار خاطئ إلا انني أحترمه.
في اليوم التالي، عادا وغيّرا رأيهما وطلبا عقد استشارة طبية جماعية ثانية. وللمرة الثانية، أفتى أكثرية الأطباء بتركها تموت بسلام. في ليل ذلك اليوم، سمعت عبير صدى صوت يحثّها على الاستمرار في العلاج وعدم الإستسلام لليأس. فعادت وأكملت العلاج. وزالت جميع دلائل المرض من جسدها إلا من الدماغ.
طلب سالم عند ذاك من طبيب الدماغ الجرّاح استئصال المرض. وبعد العملية، أصيبت عبير بنوبة ارتجاجية، فاضطر الأطباء لإعطائها بنجاً عمومياً لإيقاف الارتجاج وظلت تحت تأثير البنج حوالى سبع ساعات وحين انتهى مفعول البنج عاد الارتجاج. عند ذلك، رجا زوجها البروفسور سالم رجاءً خاصاً: دعها تموت! عند ذلك عانقه سالم وقال له: أنت مرهق وغير قادر على الوصول الى قرار عقلاني. لقد قطعنا ٩٠% من الطريق ولا يجوز التراجع الآن. فغضب الزوج وقال له: لم أر رجلاً أعند منك!. لكنه سمح له بإكمال العلاج. بعد ستة شهور من العلاج، اختفت كلياً كل إشارات المرض حتى في الدماغ. والآن بعد ١٥ عاماًً تتمتع عبير بصحة جيدة، ولا تزال تعيش في الكويت، ويزورها سالم عندما يكون هناك، فيتذكران الأيام القاسية التي عاشتها وتذكره بأن الوصول الى الشفاء يتطلب الكثير من الشجاعة والمثابرة والحظ.
ويروي سالم هذه القصة ليَعرِف الأطباء والعامة من الناس أهمية المثابرة، وكم من مريض سقط ومات لأنه خسر الشجاعة والمثابرة للسير قدماً.
ويقول سالم بأنه عندما كان يعالج عبير، كان يتصل دائماً بطبيبها في لندن ويطلعه على تطور حالتها. وكان الأخير يرد قائلاً: إن ما تقوم به أمرٌ غير مهني وغير أخلاقي، ويجب أن تدعها تموت بسلام! بعد أربع سنوات على شفائها، توقف الطبيب في لندن عن الإجابة على رسائل البروفسور الذي يقول إنه من المؤسف انه لم يكن عند هذا الطبيب الجرأة ليعترف بأنه كان على خطأ. ويقول سالم بأن الله أنعم عليه، بخلاص موسى النبيّ، برؤية الأرض الموعودة مردداً بالعلم رأيت الذي أريده. وهذا مصدر طمأنينة وسلام لأي إنسان.
الجنسية الأميركية
جعلت عضوية الدكتور سالم في لجنة الرعاية الصحية الأميركية، شخصاً مقرباً من الرئيس بوش الأب والسيدة الأميركية الأولى بربارة، فبدأ يطلب منه الرئيس مهمات معينة، ويستشيره طبياً عندما يمرض أحد أفراد العائلة أو مساعدوه.
مرة كان فيليب يقرأ جريدة النيويورك تايمز، فلفتت نظره مقالة تنتقد مستشار وزير الدفاع، لأنه ليس مواطناً أميركياً. في الأسبوع التالي، طلب سالم مقابلة عاجلة مع الرئيس بوش، أجلت من يوم لآخر. علماً انه كان لا يريد كثيراً من الوقت، بل دقيقتين فقط، إدراكاً بأن وقت الرئيس ثمين. اتصل الدكتور سالم ثانية وحدد له موعد فدخل الى مكتبه فطلب منه الرئيس التحدث سريعاً. فقال له سيدي الرئيس أظن أنك لا تريد فضيحة ثانية إذ إنّني أيضاً مثل مستشار وزير الدفاع لا أحمل الجنسية الأميركية. فعلّق الرئيس:
– أنا وظفتك لعقلك وليس لجواز سفرك.
وطلب من سكرتيرته الاهتمام بالأمر. وهكذا حصل فيليب وبقية أفراد العائلة على الجنسية الأميركية بسرعة فائقة بأهون السبل.
قصة المتابعة
يروي الدكتور سالم، في هذه السياق أيضاً، قصة رجل دين كبير، جاء الى أميركا سنة ١٩٩٤ وكان يشكو من مشاكل في القلب. وقد أصرّ على الذهاب الى مايو كلينيك وتوجّه فيليب لملاقاته هناك. بعد إجراء الفحوصات الضرورية وقال له طبيب القلب بحضور سالم: عندك خياران: إما الموت على طاولة العمليات، أو الموت بعد أشهر عديدة دون عملية جراحية.
غضب المريض من هذا الكلام وطلب من سالم نقله الى مدينة هيوستن، حيث استدعى له فيليب طبيب القلب الشهير دنتون كولي، وكانت بينهما صداقة، إذ إن سالم كان يعالج ابنة الدكتور كولي الكبرى. في الطائرة التي أقلت سالم ورجل الدين المريض، اتصل سالم بكولي وأخبره أن المريض سيكون في مستشفى سان لوك الساعة الخامسة مساء وطلب من كولي أن يفحصه الساعة السادسة مساء. حصل ذلك وبعد فحص كولي للمريض قال لسالم هناك ١% أمل في أن يشفى هذا المريض بواسطة العملية الجراحية. وبما انه لا خيار آخر لنا سنجري العملية غداً صباحاً. أجريت العملية إلا أن المريض نزف حول القلب بعد إجراء العملية. فطلب سالم من الدكتور كولي أن يعيد المريض الى غرفة العمليات وأن ينظف الدم من حول القلب. إلا أن كولي رفض. فأصرّ عليه سالم فأجريت العملية. وبعد العملية الثانية نزف المريض مرة ثانية فنفض الدكتور كولي يده وقال لسالم لا يوجد أمل!. إلا أن سالم أصر على جراحة ثالثة وهكذا كان. إلا انه بعد الجراحة الثالثة دخل المريض في غيبوبة. وعندما جاء كولي ليتفقد المريض قال لسالم: هذا المريض ميت سريرياً وأنت قد تعالج الموتى أما أنا فأعالج الأحياء فقط فإذا أردت أن تعالجه فأنا أسحب اسمي كطبيب معالج له وتكون أنت وحدك المسؤول عن حياة هذا الرجل. دعا سالم عند ذاك أطباء القلب، ولما كان القلب ليس من اختصاصه، خاطبهم قائلاً إنه يريد ان يعملوا كل ما بوسعهم. وطلب من ستة أطباء السهر عليه. كل واحد يسهر أربع ساعات. ظل المريض في غيبوبة ستة أيام وكان كولي يمر يومياً ويمازح سالم قائلاً: هل أنت يسوع المسيح؟ في اليوم السادس، ولدهشة الأطباء كلهم، ابتدأ المريض يتماثل للشفاء، وبدأ يتحسن.
بعد شهر من العلاج أصبح المريض في صحة جيدة، وعاد الى باريس ومنها الى الشرق الاوسط. وبعد ثلاث سنوات جاء هذا المريض الى أميركا لاجراء فحوصات طبية، وسأل عن الأطباء الذين عالجوه، فوجد ان نصفهم انتقل الى رحمته تعالى.
ويقول الدكتور فيليب سالم، ان هذا المريض هو اليوم بأحسن صحة، وان كولي نفسه هو الآن مريض جداً.
يضع الدكتور سالم هذه التجارب بيد الاطباء اكثر من المرضى والناس العاديين، والعبرة في رأيه، بضرورة متابعة العلاج الى النهاية، وعدم الإستسلام امام المرض بسرعة، بل المحاربة حتى آخر رمق.
جريدة الانوار – اللبنانية
قم بكتابة اول تعليق