الحياة الدبلوماسية ليس كمثلها حياة، فهي تتيح للدبلوماسي العيش لأكثر من حياة متنقلاً من بلد إلى آخر على مدى العمر، مع تنوع الأصدقاء والمعارف وانتشارهم على مساحة الكون، وهذا مفتاح النجاح للعمل الدبلوماسي الذي عايشته جل عمري متنقلاً من أقصى الأرض إلى أقصاها.
بدأتها بسفارة دولة الكويت بمدينة “جدة” قبل نقل السفارات إلى مدينة الرياض، وذلك بدرجة ملحق دبلوماسي، وكان يشغل منصب السفير الشيخ بدر المحمد الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله، الذي أتاح لي، طيب الله ثراه، فرصة نادراً ما تسنح لأحد حيث كلفني القيام نيابة عنه بالمشاركة في غسل داخل الكعبة الشريفة… كانت لحظات من الخشوع والإيمان، فما أروعه من شعور، ذلك الذي يغمرك وقد استضافك الرحمن في بيته العتيق، لحظات لا يمكن أن تمر على الإنسان مثلها في حياته، ولن أتحدث عن مشاهداتي داخل صحن الكعبة الشريفة فذلك ملك لقلبي ووجداني. ومن المراسم المعتادة في الحياة الدبلوماسية أن يقدم السفير المعين نسخة من أوراق اعتماده إلى وزير الخارجية، ثم يتم تحديد موعد مع رئيس الدولة لتقديم الأصل، ونادراً ما يحدث العكس، وهذا ما حدث معي في جمهورية الجزائر الشقيقة، فقد قدمت أوراق اعتمادي إلى الرئيس الشاذلي بن جديد، رحمه الله، بعد وصولي إلى الجزائر بيومين، ولم يتم بعد تحديد موعد مع وزير الخارجية، وعليه فقد تم الاتفاق مع معالي الوزير بوعلام بالسايح بلقائه مساء ذلك اليوم لتقديم النسخة.
في الفترة ما بين 1996- 2000 توليت منصب رئاسة البعثة في جمهورية فنزويلا الصديقة، وعملت سفيرا محالا لدى كل من كولومبيا وبيرو والإكوادور، ومن المواقف المحرجة التي صادفتها في فنزويلا فقد تلقيت أنا وزملائي سفراء بعض الدول العربية دعوة من سعادة السفير المغربي لحضور حفل استقبال يقام على شرف رئيس جمعية رجال الأعمال المغاربة، وبناء عليه فقد ذهبنا أنا والصديق العزيز أنورعبدربه القائم بالأعمال السعودي إلى ذلك الحفل، حيث قام السفير المغربي بتقديم المحتفى به للحضور. وعند وصوله لنا قدمه لنا باسم “السيد كوهين…” حاولت أن أسحب يدي ولكن الضيف كان أسرع مني فقمنا بمصافحته وإجراء بعض الحوار معه، حيث اتضح أن كوهين يهودي مغربي الأصل والمولد ويتكلم اللغة العربية بلهجة مغربية، وقد هاجر إلى فنزويلا منذ سنين طويلة ومارس العمل الخاص في المجال السياحي بين دول أميركا الجنوبية والمغرب وبالعكس، وغدا من رجال الأعمال المرموقين، لم نجد بالسلام والحوار غضاضة، ولكن تفادياً للإحراج قمنا بالاستئذان خصوصاً بعد أن زاد عدد من يلبسون الطاقية السوداء، حيث ذهبنا أنا وأخي أنورعبدربه إلى أحد المطاعم لتناول طعام العشاء الذي حرمتنا منه السياسة.
بعد فوز الرئيس هوغو تشافيز برئاسة جمهورية فنزويلا وصل إلى كراكاس الزعيم الكوبي فيديل كاسترو لتقديم التهنئة، وقد أقيم حفل استقبال على شرفه حضره رجال الدولة وأعضاء السلك الدبلوماسي وكان مطلوبا من الحضور ارتداء البدلة السوداء الرسمية أو الزي الوطني للدولة التي ينتمي إليها المدعو، وعليه فقد قمت بارتداء الزي الكويتي المحبب.
في أثناء الحفل قام الرئيسان كاسترو وتشافيز بالمرور على الحضور للسلام والمصافحة حتى وصل أمامي، فأخذ ينظر للزي العربي ثم سألني من أي بلد أنت؟ أجبته سفير دولة الكويت، ثم سأل صديقي الذي كان بجانبي وكان رجل أعمال أميركيا، وأنت؟ فأجابه من أميركا فرد الرئيس كاسترو مازحاً: “إذن أنتم حلفاء إمبرياليون… اعذروني فلن أصافحكم”.
في الفترة ما بين 2000- 2003 شغلت منصب سفير الكويت لدى اليمن الشقيق في مدينة صنعاء العزيزة بكل ما فيها من عبق الماضي العريق، حيث يقال إن من قام ببنائها هو سيدنا سام بن نوح عليه السلام. وفي ديسمبر من عام 2001، أقيم في صنعاء الأسبوع الثقافي الكويتي الذي كان متميزاً بكل ما فيه، وكان من ضمن فعاليات ذلك الأسبوع دعوة كريمة من الصديق الفنان عبدالرحمن الأخفش في ديوان عائلته في مدينة كوكبان التي تبعد عن صنعاء بحوالي 45 كيلومتراً وتقع على قمة جبل “الضلاع أو اذخار”، التي ترتفع عن سطح البحر بحوالي 2800 متر. كانت دعوة غاية في الكرم والروعة ضمت العديد من الشخصيات الكويتية واليمنية منها وزير الثقافة عبدالوهاب الروحاني، ووزير الإعلام د. حسين العواضي، ووزير الخارجية د. أبوبكر القربي، ود. محمد الرميحي رئيس الوفد الكويتي، والنجمة المتألقة دائماً الفنانة سعاد عبدالله، والفنان والصديق العزيز محمد المنصور، وعضو مجلس النواب اليمني الفنان محمد مرشد ناجي الذي أطربنا بأغنيته الرائعة “على مسيري”.
كان الديوان محاطاً بنوافذ زجاجية تتيح لنا مشاهدة الغيوم بألوانها المتداخلة تمر بسرعة من حولنا ومن أسفل منا بمناظر غاية في الروعة تتجلى فيها عظمة الخالق سبحانه. وفي طريق العودة من كوكبان إلى صنعاء بالسيارة وعلى مدى ساعة ونصف استمتعت بحديث شيق مع الفنانة الرائعة سعاد عبدالله والفنان المبدع محمد المنصور تناول الكثير من جوانب الحياة بما فيها الحياة الدبلوماسية، وكم كنت سعيداً عندما رأيت تجسيداً لبعضها في المسلسل الرائع “الجادة سبعة”.
بتاريخ 18/ 3/ 2001 استقبلنا في صنعاء وفد مجلس الأمة الكويتي برئاسة العم الفاضل جاسم الخرافي “بوعبدالمحسن” وعضوية عدد من الأعضاء من بينهم د. أحمد الربعي، في أثناء مقابلة الوفد للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وجه الرئيس تساؤلاً للدكتور الربعي “بالأمس كنت تحمل الرشاش والمدفع وتسكن الكهوف والجبال في منطقة ظفار وتقود حركات تحرير الخليج والجزيرة… واليوم نراك تتولى المناصب الوزارية والبرلمانية في الكويت، فكيف تم هذا التحول؟ أجاب د. الربعي بكل ثقة وصدق بكلمات لها مغزاها نعم فخامة الرئيس، وإني أحمد الله كل يوم أننا لم ننتصر في ثورتنا تلك”.
قضيت في مدينة صنعاء حوالي ثلاث سنوات كانت مليئة بالعمل الممتع ومازالت ذكرى تلك الأيام راسخة بالذهن.
حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق