التاريخ مليء بالوقائع السياسية التي يمكن الاستفادة منها، لكن المحك هو القدرة على تفسير التاريخ، ليس تفسيرا ظاهريا، ولكنه تفسير من الداخل، وخصوصا الصراعات الكبرى التي غيرت وجه ذلك النهر العظيم. فالتاريخ عند فريدريك هيغل يحقق فكرة المطلق في الزمان، كما تحققها الطبيعة في المكان، كالفاكهة في طريقها إلى النضوج، كما يفسره أرنولد توينبي بنظرية التحدي والاستجابة.
في التاريخ الإسلامي، هناك حادثتان ينبغي التوقف عندهما جيدا، هما فتنة ابن الأشعث، ونكبة البرامكة، حتى يمكن فهم طبيعة الصراع السياسي في مثل ذلك المجتمع، وهو كما يبدو لي مازال قائما رغم مرور كل تلك القرون، وخصوصا أن الحادثتين، وإن كانتا بعيدتين عنا تاريخيا، إلا أنهما قريبتان منا جغرافيا، ويمكن من خلال فهمهما فهم طبيعة ما يجري من صراع على الساحة المحلية.
الآن فقط اقتنعت بمقولة «التاريخ يعيد نفسه»، رغم امتناعي كل تلك السنوات الماضية عن ذلك تحت تأثير الكثير من المبررات، بل تيقنت الآن أن هناك خطين للتاريخ، أحدهما رأسي، والآخر أفقي، وينبغي فهم كل حدث تاريخي من خلال هذين الخطين، وإلا، فإن محاولة إسقاط فهم أحدهما ستؤدي إلى إسقاط فهم الآخر بالتبعية، ومادامت الآليات التي صاحبت الحدثين التاريخيين كما هي الآن، فلا تثريب في انطباقهما.
البنية السياسية المحلية، وإن كانت من الخارج، تبدو على شكل مؤسسات هي السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، فإنها من الداخل متطابقة إلى حد كبير بالبنى السياسية القديمة، وفي هذا تناقض مع النص الدستوري، حيث بقي ذلك النص على الورق، وبقيت النفوس تحمل بنية سياسية واحدة، وتتكرر في كل زاوية من زوايا التاريخ في المنطقة.
هناك مجموعة صغيرة تحاول أن تفعل شيئا ما، لكنها لم تنتبه إلى أن هناك حائطا يكاد يصل إلى السماء، يفصل في ما بين تلك المجموعة وبين من يقبعون في الكهف، وإنهم بحاجة إلى آليات جديدة لفتح ثغرة في ذلك الجدار العالي، ليصلوا من خلاله إلى البقية، وأن اجترار الآليات الهرمة لن يمكنها من فعل شيء، فهل تفهم تلك المجموعة طبيعة الصراع؟!
المصدر جريدة الكويتية
قم بكتابة اول تعليق