في الثقافات الآسيوية، يحرص المجتمع على تهذيب نفسه بالصمت، فيدعو إلى احترام صمت الآخرين قبل كلامهم، ومشاركتهم صمتهم كمظهر للاحترام، كما يعزز المجتمع في نفسه مهارة السكوت للإنصات والتعلم فيكون الصمت بداية لفهم الآخرين ونهاية له أحيانا.
ولأن العرب، وإن عاشوا في بلاد غير عربية فإنهم يحتفظون بعقلية عربية حاولت أن تصمت ونجحت وفشلت، إلا أن الكثير منهم لا يتعلم الصمت بمعناه الحقيقي إلا بعد أن يتعرف على العديد من الأصدقاء الآسيويين الذين يغمرون من معهم بصمتهم المهتم، وسكوتهم الواعي، وهدوئهم المحترم، ولا ينكر عربي خالطهم أنه كان يظن فيهم السوء بادئا فيتهيأ له أنهم آخر من يفهم، وآخر من يجيب، وآخر من ينجح، وينسى أن العلم ليس سباقا كما أوهمونا منذ المراحل التعليمية الأولى، وليس سلما يعلو أحدنا فيه على الآخر فيلقب هذا بالأول وذاك بالأخير، وإنما العلم في أثر التأني وعمق الإدراك وبعد الوعي بالغرض من المعلومة ومهارة استخدامها.
وحتى ندرك سبب عجز معظمنا عن الصمت، وجب أن نوضح أننا في لب ثقافتنا نشجع على التبرير والتعليل، علاوة على حسنا العالي للمشاركة، فلا أذكر نشاطا يهم العربي إليه وحده، فلا نتشجع على ارتياد النوادي الصحية إلا إذا رافقنا صاحب، ولا نفضل السفر إلا بصحبة رفيق، ولا نأنس بطبق لذيذ على طاولة خالية، ولا نستمتع بعرض فيلم في دار السينما إلا الى جوارنا من يطغى صوت طرقعة الفشار في فمه على مكبرات الصوت، فلا خلوة ولا عزلة إلا في دور الراحة إن خلت!
والإضافة الحقيقية لمعنى الصمت في حياتنا الإنسانية تتحقق -في رأيي- عندما تفرض علينا ظروف حياتنا الوحدة، بكل ما تجلى فيها من معان، فلا نسمع أصواتنا لساعات تتجاوز في عدها أياما، فنتألم لوحدتنا شديد الألم، ونتأثر كبير الأثر، لكننا في صمتنا نتعلم عن أنفسنا، وفي سكوتنا ننصت لأنفسنا، وفي هدوئنا ندرس حالات أنفسنا ولغتنا الجسدية التي تفوق بعمقها ووقعها رغبتنا الدائمة للثرثرة بما فيه معنى وما خلا من أي معنى.
وعليه، فإننا إذا لم نختبر الصمت ونمارسه ونتعايش معه، فلن نستطيع ما حيينا أن نحترم حق الآخر في التعبير، وحق الآخر في الحزن، وحق الآخر في التأمل، وحق الآخر في فسحة من هدوء، وحق الآخر في نعي أحدهم بدمعة صامتة، وحق الآخر في ملاحظة الحياة صامتا وملاحقة إيقاع الحياة راقصا ومتابعة مشاهد الحياة متمعنا.
وأقبح مظاهر انتهاك حرم الصمت يتجلى في أماكن الحداد، وهو مكان من الزمن لا يرغب فيه أصحاب الفقيد منك أكثر من أن تكون موجودا و… أن تصمت، اصمت لكي تسمع لأصحاب الفقد وهم يبكون حزنهم، اصمت لكي تحاول أن تفهمهم، اصمت لأنك إن لم تفهم فلن تشعر بهم ولا معهم، اصمت لأن العزاء ظرف يصعب على أهله إذا ما كثر اللغط فيه، اصمت لأن حبك يظهر بنظرة وإيماءة تهم فيهما لمساعدة أصحاب الحزن على الكلام، اصمت وانتظر واستمع وافهم وتعلم أن الصمت في حرم الحداد احترام.
المصدر: جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق