عنوان هذا المقال كان عنوانا لمقال سابق كتبته قبل سنوات تعليقا على بعض الأنشطة الهادفة للتقريب بين المذاهب الإسلامية كإحدى وسائل نزع فتيل الفتنة الطائفية في عالمينا العربي والاسلامي، وأجد هذا العنوان، ورأيي من المسألة إجمالا، يتكرس مجددا مما يتيح لي استخدام العنوان نفسه من جديد!
قديما قيل، إنه من الخطأ أو الغباء!- تكرار الفعل نفسه مرارا، وفي كل مرة نتوقع نتيجة جديدة لم نرها في المرة السابقة!
هذه المقولة هي تجسيد حقيقي لما تشهده الساحة من آليات يروج لها بعض المخلصين للخروج من دوامة التشاحن الطائفي وشبح الصدام المريع، إذ إن الخلاف بين طوائف الأمة الاسلامية قديم بقدم الدين الاسلامي نفسه، ولم تخل مرحلة تاريخية من مواجهة طائفية بدرجة أو بأخرى من الحدة أو العنف، وتداخلت في تحديد طبيعة الصراع وشكله عبر التاريخ العديد من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وكانت ثقافة الخوف من الآخر والشك العميق في نواياه ومقاصده هي المشكل الأساس والمبرر الرئيس المسوغ لكره الآخر والدفع لإقصائه أو القضاء عليه تماما، وبأبشع الوسائل، دون وخزة من ضمير أو رادع شرعي، بل على العكس، لعب الفقه أحيانا لعبة فقهاء السلاطين ممن تفننوا في تقديم تبرير أصولي وشرعي لا يكتفي بتحييد البعد الأخلاقي عن أي ممارسة عنيفة ضد الآخرين، بل كساها بغطاء مزخرف من التأصيل المحرض عليها باعتبارها ممارسة دينية واجبة شرعا، ومتصفة بالجودة الأخلاقية!
وبقدم هذا الصراع وتزامنا معه، نستطيع رصد الكثير من الجهود الـ«طيبة» والتي حاولت عبر العصور احتواء المعضلة الطائفية عن طريق التركيز على البعد الأخوي بين المذاهب الاسلامية وأتباعها، ولفت الأنظار لما يمكن تصويره بالعدو المشترك المتربص بالأمة، ولعل المتتبع لمسيرة ما يسمى بـ«التقريب» بين المذاهب الاسلامية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات وأواسط القرن العشرين خصوصا يستطيع وبسهولة تحديد الكثير من تلك المشاريع «الرومانسية» للتقريب المشار إليه، والتي لم يكن آخرها جمعية التقريب بين المذاهب الاسلامية والتي أنشئت في القاهرة، والتي لا يبرئها البعض من التأثر بالسياسة شيئا ما نتيجة لتزامن نشأتها نسبيا مع التقارب بين النظامين الملكيين في مصر وايران وتتويج ذلك التقارب بعملية المصاهرة الشهيرة بين الملكين الشابين أيامها.
إن التجربة تفرض علينا مصارحة الجميع بأن التقريب لا يعدو كما أشرنا محاولة رومانسية لتلطيف الصراع، أو في أسوأ حالاته ترحيله لمراحل لاحقة، وذلك لأسباب عدة ليس أقلها محاولة حل الأزمة بين المذاهب بطريقة توفيقية تعمد لتقريب وجهات نظر متباعدة تاريخيا وعقديا وتم ترسيخ اختلافها العميق عبر قرون من المطارحات والمساجلات والتنافس السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري وغيره، مما جعل غاية التقريب عمليا في نظر الكثيرين هو اجتماع علماء الفريقين على طاولة واحدة، وأن تسمح إحدى الطوائف للأخرى بالتعبد وفق ما تراه هي من حدود مقبولة في التعبير عن المضمون العقدي والفقهي لمباني تلك الطائفة ومرجعيتها.
إن التقريب -إن جاز لنا استخدام المفردة نفسها- لا يكون إلا في إطاره الاجتماعي والسياسي، وغيره لا يعدو نوعا من ذوبان إحدى الطوائف في الأخرى أو قبولا بالرضوخ لطائفة بحكم ذائقتها الفقهية والعقدية وقراءتها التاريخية في لحظة ما، وفي عصرنا هذا، وبالالتفات لتجارب الأمم التي استطاعت تجاوز احتقاناتها الطائفية، فلا مناص من استبدال جهود التقريب تلك بفلسفة أرحب تتمحور حول مفهوم التعايش في إطار مرجعي مدني يؤمن بحقوق جميع المواطنين ومساواتهم أمام القانون، والقانون وحده، وحتى ذلك الحين، وكي لا نجتر آليات أثبتت فشلها في تحقيق السلم الاجتماعي، علينا بالبدء في اجراء مراجعة مفاهيمية شاملة لعلاقتنا ببعضنا البعض، وأي جهد في اتجاه آخر سنضطر أن نتحفظ عليه، حتى لو كان عنوانه براقا، كـك… التقريب بين المذاهب الاسلامية!
Twitter: @alkhadhari
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق