لمى العثمان: المجرم حراً… والحر مجرماً

تناقضات صارخة فاقعة… بين قصور في التشريع يجعل المجرم (كما يصنف دولياً للراشي والمرتشي) يفلت من العقاب، وغلو في التشريع يؤدي بصاحب الرأي إلى السجن… وبين القصور التشريعي الكارثي فيما يتعلق بقضايا الحريات وحقوق الإنسان وتطوير المؤسسات، وغلو في تغليظ العقوبات التي تكرس الاستبداد وتنال من الحريات وتدوس حقوقَ الإنسان، تُخنق روح العدالة وتنسف أسس مقومات الدولة الديمقراطية الحديثة، باسم القوانين القروسطية غير الديمقراطية التي نرزح تحت سوطها لعقود.
لقد أقرت النيابة العامة القصور التشريعي لتجريم الكسب غير المشروع، كما أوصت المشرع بالعمل على إصدار تشريعات تجرم الرشوة السياسية، فالحسابات المتضخمة موجودة، لكن القانون الذي يجرم هذه الأفعال غائب. ومازال المجلس “اللي يشمخ” يصمت عنها وعن قضية التشريع لقانون مكافحة الفساد صمت القبور. لتطير “الطيور بأرزاقها” غير المشروعة، وستطير غيرها بحرية وتحلق في سماء الكويت، بينما يوضع المغردون الذين كانوا يغردون يوماً كالطيور في الأقفاص بسبب تغريدة.
لاشك أن الحكومة مسؤولة عن هذا التقهقر، لكن المسؤولية تقع أيضاً على مشرعي الأمة ورموز “الأغلبية”، بل على الشعب الذي أتى بمشرعين زادوا على سوط الحكومة أسواطاً فتكالبوا على تقييد الحريات وتغليظ العقوبات في قضايا الرأي، فهذه تعدم معنوياً وحقوقياً وهؤلاء يعدمون وجودياً وجسمانياً، كما أنهم تقاعسوا عن معالجة القصور التشريعي في نواحي الإصلاح ومكافحة الفساد واستغلال السلطة والنفوذ، فساهموا مع الحكومة في إجهاض التجربة الديمقراطية.
وقد تغذى استبداد السلطة على استبداد “الأغلبية”، وأضحى صراع الاستبداد مع الاستبداد يقتات كل منهما على الآخر ويخدم كل منهما مصالح الآخر، وتستمد كل منهما شعبويتها من الصراع مع الأخرى، وتبيع كل منهما الأوهام، وتكرس كل منهما سيادة النظام الريعي والعقلية الريعية.
لدينا كل ما لذ وطاب من القوانين المتعسفة المقيدة للحريات، كقوانين أمن الدولة والجزاء والمطبوعات والنشر وقوانين التجمعات وقانون الأندية وجمعيات النفع العام والقوانين التي تغل يد القضاء عن منازعات الجنسية والإبعاد وإقامة الأجانب ودور العبادة، وقانون حرمان المواطنين من اللجوء المباشر إلى المحكمة الدستورية للطعن في عدم دستورية القوانين، ومعظم تلك القوانين كانت تشرع بالتواطؤ مع مشرعي الأمة. هذا بالإضافة إلى التقاعس تجاه معالجة اعتلالات إدارات الدولة وإصلاحها والعمل على تفعيل استقلالها بما ينسجم مع الدستور، وعلى سبيل المثال لا الحصر، إصلاح دور إدارة الرقابة والتفتيش بوزارة الداخلية لمنع قضايا التعذيب أثناء التحقيق، واستقلال القضاء وإداراته عن السلطة التنفيذية. هذا إضافة إلى إهمال المؤسسة التشريعية للحال التشريعي الكارثي، وقد صرح المستشار حامد العثمان لـ”الجريدة” قبل سنوات عن حاجة الكويت إلى إقرار 30 قانوناً حتى تفيق من تخلفها التشريعي!
يأتي اليوم وزير الداخلية ليعرب عقب اجتماع مع نظرائه في دول الخليج عن أمله أن “يتمكن وزراء الداخلية من التوصل إلى قرارات ترقى إلى مستوى المخاطر والتحديات التي تواجهها المنطقة… فمن المستحيل إحراز أي تقدم بمعزل عن الاستقرار”… وسؤالي هل هناك استقرار دون تطوير المؤسسات والقوانين والعمل على استكمال المشروع الديمقراطي الذي وُئِد في مهده؟ وهل هناك عدالة دون تداول سلمي للسلطة وفصل واضح بين السلطات؟ وهل هناك استقرار دون إحياء مواد الدستور التي أضحت كالجثث الهامدة؟ الاستقرار لن تحققه العقلية الأمنية، بل الفاعلية السياسية والاستجابة لاستحقاقات الإصلاح السياسي والقانوني ومعالجة الفساد الذي يدمر المؤسسات ويعمل على تقويض سيادة القوانين العادلة، حتى لا يصبح المجرم حراً… والحر مجرماً في دولة سيادة القوانين الجائرة.
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.