دار حديث بيني وبينه.. شاب في مقتبل العمر يشعّ حماساً وذكاءً… ولكنه يشعّ، أيضاً، إحباطاً ومللاً من رتابة الدورة المستندية في وزارة الشؤون التي يتابع من خلالها أعمال مشروع بسيط بدأ يشق طريق حياته به.. انسجاماً مع فلسفة تشجيع الشباب على العمل المستقل لإنعاش اقتصاد الوطن وإيجاد فرص عمل لعماد الوطن.
بدا متململاً يلعن الساعة التي فكر فيها في العمل الخاص، أو بالأحرى العمل في الكويت.. فقد استغرق الحصول على معادلة شهادته العلمية من جامعة معترف بها ومن كبرى الجامعات التي دفعت الحكومة كل مصاريف الدراسة بها.. ومصاريفه الخاصة وزادت عليها مقابل تميزه وتفوقه.. ليقدمها إلى الجهة المختصة لدعم العمالة، أشهراً طويلة.
أما مبادئه والتزامه بالقانون وحرصه على عدم تجاوزه… فقد أصبحت عنده في خبر كان.. يقول لي إنني في بداية إجراءات تخليص أوراق العمل من تأسيس الشركة مروراً بكل المراحل كانت في إطار القانون والحرص على تطبيق القانون بكل نظافة… إلا أنني اكتشفت بعد فترة أن أسلوب تسيير الأعمال بطرق غير مشروعة هو القاعدة في كثير من الوزارات.. وأي شيء آخر ما هو إلا الشاذ عن القاعدة.
سألته: كيف؟ قال تعلمت بعد محاولات عدة أن أخلع عني ثياب القانون وألجأ إلى الرشى.. فوجدتها هي القطار السريع الذي يوصلني إلى مرادي في معظم الجهات بالكويت.. نعم، يكلفني الموضوع مبلغاً وقدره ولكنني لا أضطر إلى المراجعة اليوم وغداً وبعد أسبوع.. ولا أسمع كلمة «ما يصير».. أو أن أصل الساعة 12 ظهراً لأجد الموظف قد غادر مكتبه لأن دوامه حسب مواعيده هو انتهى.. فيما تشير لائحة مواعيد العمل إلى غير ذلك تماماً.
كل الأمور سالكة وميسرة بالرشوة يقول.. وفاجأني حين قال إنك لا تحتاج إلى ذكاء لتعرف ما إذا كان الموظف يريد رشوة أو لا.. فالموضوع أصبح «شاهر يا ظاهر».. وكل حسب حجمه وعمله.. فقد يبدأ الموضوع بكارت لشحن التلفون يوضع تحت ورقة المعاملة.. مروراً بطلب تغيير إطارات سيارات… وانتهاء بنسب من قيمة المناقصات.. وأنت رايح.
لم أستطع ولا يمكنني أبداً أن أغالطه أو أكذبه.. فهو الذي يصول ويجول كل يوم متابعاً أعماله.. وكثيرون غيره يتحدثون بلغته نفسها، ويقولون ما يقوله تماماً.. وما لي إلا أن أتحسر وأهز رأسي.
أحببت أن أتفلسف معه.. فقلت له: لو عينوك رئيساً للوزراء فما أول شيء تقوم به؟ قال: أغير القوانين.. قلت له: مثل أي قانون؟.. أخذ يفكر وطال وقت التفكير فاستدركته قائلة: ها أي قانون؟ قال من كثرها لا أستطيع ذكر أحدها.. ولكنني بالتأكيد أزيد من قوانين المتابعة والعقاب والفصل من العمل في القطاع الحكومي.. لأن الاستهتار وصل إلى حد لا يمكن السكوت عليه.. فالمقاهي والمطاعم والمجمعات التجارية تشهد على مكان وجود موظفي الدولة ساعات عملهم.
غيّرت سؤالي، وقلت له: ما أجمل شيء في بلادنا وأسوأ شيء فيها؟ نظر بعيداً.. وأيضاً، طال انتظاري لإجابته.. فقلت له: سأختصر لك إجابة السؤالين.. وأقول لك إن أجمل شيء في بلادي هو دستورها.. وأسوأ شيء فيها هو عدم الالتزام بتطبيق هذا الدستور كما يجب.. المواد التي تنص على الحقوق مفعّلة ومأخوذ بها أولاً فأول، وهي التي يتم تداولها في كل مكان وكل مناسبة.. أما مواد الواجبات، فقد غطاها الغبار وغطاها بيت العنكبوت.. لأن لا أحد يمسها أو يذكرها.. وهنا بيت القصيد.
حمدت الله أنه سكت ولم يرفض إجابتي.. وظل صامتاً وكأنه يردد بينه وبين نفسه.. أنه بسبب عدم الالتزام بتطبيق مواد الدستور كما يجب ويفترض… أشتكي أنا اليوم من أمور قد تكون صغيرة، ولكنها كان يجب أن تكون محل شكوى.. أبداً.
قوانين كثيرة معقدة وضعت لحالات استثنائية.. وذهب ضحيتها الكثيرون.. الذين يواجهون التعطيل والبيروقراطية وغياب الحكومة الإلكترونية التي تختصر الزمن والجهد وتفرض العدالة وتقضي على الرشوة بكل أنواعها.. والتي صرف عليها ملايين الملايين.. ليأتي الكل ويشتكي من توقف الأعمال وضياع الحقوق واستشراء الإحباط.. وهذا ما جعل الكل يطلب ولا يعطي.. يطلب رشوة حتى ينجز عملاً مدفوعاً له مسبقاً راتب لإنجازه.. ولا يعطي عمله حقه الذي هو أساساً توظف من أجله.
إقبال الأحمد
Iqbalalhmed0@yahoo.com
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق