لمى العثمان: الأغرب والأعجب… والأخطر والأصعب

صرح السيد صالح الفضالة، في لقاء تلفزيوني، بأنه تم التوصل إلى الجنسيات الحقيقية لـ67 ألفاً من البدون، ونحن نطالب السيد الفضالة بإحالة تلك الحالات إلى القضاء لتأخذ العدالة مجراها، فالجهاز المركزي ليس جهازاً قضائياً لكي يحكم ويفصل ويطرد، أين يلجأ المظلوم إذاً في دولة القانون؟ ولماذا يحرم أي إنسان من أن يلجأ إلى القضاء التماساً للإنصاف؟ ولماذا ينزع من السلطة القضائية هذا الحق الذي أقره الدستور؟ وهل هناك انتهاك أبشع من سلب الإنسان حقه في التظلم؟ وكيف سترد المظالم بهذه الطريقة البدائية؟
الأمرّ والأدهى أن الجهاز يعتمد في حله على الانتظار، ليقوم البدون بتعديل أوضاعهم، أي إيجاد جنسية لدول أخرى، الأمر الذي تسبب في تعقيد المأساة الإنسانية بدلاً من أن يحلها، فالكثير من الذين اشتروا جوازات لدول أخرى اكتشفوا في ما بعد أنها جوازات مزورة باعتها لهم المكاتب التجارية، لتتعقد مشكلتهم أكثر من السابق، لذا يخاف الكثير من البدون من هذا الحل الذي يطالب به الجهاز المركزي. والأهم من ذلك أن تعديل الوضع القانوني هو مسؤولية الدولة أولاً وأخيراً، عبر إحالة من تدعي أنها تملك أدلة ضدهم إلى القضاء، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة كما ينص الدستور.
والأغرب والأعجب أن الجهاز يروج لـ”إنجازاته” عبر كتيب أسماه “المقيمون بصورة غير قانونية… حقائق وأرقام”، وما هي إلا أرقام صماء، لا تعي حجم المعاناة الإنسانية التي رأيناها تمشي على الأرض بأم أعيننا حين رصدناها، كمجموعة 29، في التقرير الميداني “رصد وتوثيق انتهاكات حقوق الأطفال البدون”، والتقرير متوفر في الموقع الإلكتروني لمجموعة 29، لمن يرغب في الاطلاع عليه.
يأتي كتيب الجهاز ليصف “الإنجازات” بعدد شهادات الميلاد والتوثيقات الشرعية التي صرفت، وهي دليل على حرمان تلك الفئة في السابق من الحقوق الإنسانية الأصيلة، ومن المعيب اعتبارها إنجازاً. كما أن تلك الأرقام لم توضح عدد من لم يتم إصدار الشهادات لهم، وهي بذلك تظهر أرقاماً وتخفي أخرى. أما في ما يتعلق بملفات التعليم وحق العمل ورعاية ذوي الإعاقة، التي تم ذكرها في الكتيب، فيرد عليها التقرير المذكور أعلاه بشكل مفصل وموثق.
والأخطر والأصعب هو موقف البعض ممن يدافع ليلاً ونهاراً عن الحريات، ويتحدث عن قيم الحداثة والنهضة وتطور المجتمعات، ويجادل بفلسفة التنوير، ويعجب بالهوية الإنسانية للمجتمعات المتحضرة، لينكشف زيف ادعائه حين يظهر نزعته الشوفينية وخطابه الهوياتي المتعالي المنغلق، بدلاً من تبني مفهوم الهوية الحداثية المؤنسنة المنفتحة المتعددة، التي تحتوي الإنسان، وتجعل منه طاقة منتجة بنائية. تلك الهوية الإقصائية المنغلقة على ذاتها هي التي اقتلعت د. خليفة الشمري من أرضه، لتحتويه الهوية الإنسانية الحداثية، ليصبح عميداً لكلية العلوم الطبية بكاليفورنيا!
فهل يعلم من يرفعون شعارات الحرية أو شعارات الوطنية أن سياسات الهوية المنغلقة، التي جردت وأقصت وعزلت، لم تفعل خيراً بوطننا ولا بإنسانه؟ ذلك أنها هدمت بدلاً من أن تبني وتحتوي وتطور، وهذا هو ديدن الهويات المغلقة، تحكم على نفسها بالتلاشي والضمور والتكلس والتيبس، عكس ما يروجه البعض ممن يبرر إقصاءه وتعنصره بـ”المحافظة” على الهوية الوطنية، وهي في الأصل هوية تكونت عبر الهجرات من الدول المجاورة، وهي ذات الأصول التي ينتمي إليها أبناء بادية الكويت (البدون)، رغم إيماننا بأن المواطنة لا تتحدد بشكلها العمودي، كما يعبر الأستاذ دخيل الخليفة، الذي وصف حالة الإقصاء والممارسات التعسفية ضد البدون باسم الهوية الكويتية بأنها “تمثل صراعاً بدائياً يمثل دفاعاً عن وجود كيانات أخرى تريد تحقيق المزيد من المكاسب الشخصية والفئوية، عبر وجهات نظر قاصرة لا ترى في الوطن سوى بقرة حلوب”.
هي أزمة ثقافة واستفحال العقلية الاستبدادية العنصرية الضاربة جذورها في الأعماق… لا شيء آخر.
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.