منذ فترة كنت أسكن في شقة تقع في حيّ يعج بالكثير من الأطفال، وكنت أحياناً عندما أنزل من الشقة لأركب سيارتي أجد مجموعة من الأطفال يجلسون فوق السيارة! وأحيانا أجد على زجاجها آثار أقدام، وأحيانا أجد عليها شيئاً من بقايا الساندويتشات وبعض قناني الكولا، وأحياناً أجد خدشاً جديداً في أحد أجزاء السيارة! فقررت أن أنهي هذه المأساة المتكررة فعمدت أن أعرف من هو صاحب الشخصية الأقوى والأكثر تأثيراً من بين أطفال الحيّ، وبعد أن أخذت ألاحظ وأدقق في شأن الأطفال من خلال جلوسي أحياناً في سيارتي أو من نافذة شقتي وهم يلعبون الكرة أو يتحاورون في ما بينهم، وبعد التفكير والتركيز صحت فجأة وأنا على سريري: حامد حااامد حاااااامد!
وحامد هذا هو الطفل الذي بمثابة العُمدة لبقية أطفال الحارة، حيث انهم يخافونه ويخشونه ويسمعون كلامه ويتقون بطشه. وفي يوم من الأيام وأنا أسخن سيارتي رأيت حامد يقف أمام بيتهم، فناديته وعانقته عناقاً حاراً، وقلت له: إني أحبك وأفتخر بك. ثم وضعت بعض النقود في جيبه العلوي، وأوصيته بأن يحمي سيارتي وألا يدع أحدا من أطفال الحي يقترب منها. فهز حامد رأسه مبتسماً فرِحاً ووعدني بتحقيق ما طلبته منه. وبالفعل أخذت تنعم سيارتي بالهدوء والنظافة والاستقرار، وكان حامد كلما رآني جاءني مسرعاً ليُسلّم عليّ، لكن عيناه كانتا تقولان لي: أعطني شيئاً من المال! وكنت أحياناً أجد الطفل حامد في حارات وسكك أُخرى فيوقفني ليأخذ مني الإتاوة المغلفة كالعادة بسلامه وابتسامته المعهودة. واستمررت في هذه اللعبة مع حامد لأيام طويلة، حتى أخذت أتراخى متعمداً عن إعطائه النقود التي تعتبر نظير تعبه في حماية سيارتي، فكان حامد بعد ذلك حين يراني يكتفي بأن يُلوّح لي بيده من بعيد وعيناه تلمعان بالعتب، ورغم ذلك كنت أُطنّش ما أقرأه في عينيه.
أخذ الحال يتبدل شيئاً فشيئاً ويعود كعهده السابق، فبعض أطفال الحي أخذوا يقتربون من سيارتي، وأخذت أحيانا أجد عليها من جديد بقايا من الطعام والشراب وشيئاً من آثار الأقدام على الزجاج، حتى بلغ الأمر أني في إحدى المرات وأنا أتأهب صباحاً للذهاب لعملي وجدت أن العجلات الأربع لسيارتي قد تم انزال هوائهما على الآخر! فتداركت الأمر بأن طلبت سيارة أجرة توصلني لمقر عملي. وبعد هذه الحادثة الخطيرة المفاجئة قررت أن أعقد اتفاقية جديدة مع عمدة أطفال الحارة حامد، فمرّ من أمامي ذات مرّة فناديته، واقترب مني فقلت له: كيف حالك يا أطيب ولد؟ فرد عليّ وقال: لأ، أنا مو طيّب، أنا أحب الفلوس! قال حامد انه يحب الفلوس كاش في وجهي وعلى الهواء مباشرة ليخبرني بأنه لا يحتاج لمدحي ولا لثنائي عليه ولا حتى لسلامي، بقدر ما يحتاج للفلوس فقط.
الطفل حامد كان صادقاً مع ذاته، وكان شديد الوضوح في تعامله معي، وكان يحب أن يرى شيئاً ملموساً نظير تعبه. كم تمنيت أن يتعامل بعض السياسيين الكويتيين مع ذاتهم والآخرين كما يتعامل الطفل حامد مع ذاته والآخرين من حوله بوضوح وشفافية، وأن يأخذوا حقهم بشكل مستقيم دون لف ودوران، دون لعلة اللسان والخطب الرنانة الطنانة التي يكثر فيها التهديد والوعد والوعيد من أجل المصالح الشخصية والغزل الانتخابي البعيد عن الصدق والمروءة!
Twitter: @alrawie
roo7.net@gmail.com
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق