نعود الى أيام مضت مع ولادة مجلس التعاون الذي لم يجد الترحيب الشعبي الذي يستحقه من النخب في الكويت بسبب الحملة الاعلامية للمشككين وأصحاب الأقلام المتأثرين بالمناخ العربي في ذلك الزمن الذي يرتاب بكل خطوات الخليج، على أساس ان يبقى الخاصرة الرخوة التي يجب ان تلعب دور الملحق الرديف للسياسات الراديكالية العربية.
وكنت أقضي وقتا لحضور المنابر الكويتية التي تنظم منتديات وندوات عن مجلس التعاون مع تسليط التهم في أنه حاضن للأنظمة، ومجلس شيوخ، لا يجد المواطن الخليجي طموحاته وتوقعاته في هذا المجلس.
وكانت الفوضوية الاعلامية تتسيد الاعلام الكويتي المتسابق من أجل الفوز لارضاء حكومات ومنظمات وأحزاب عربية لها أجندات مختلفة عما تريده المنطقة.
كانت حالة الثمانينيات الاعلامية اختطافا كاملا للهموم الكويتية وتركيزا مبالغا على قضايا عربية طغت على الاعتبارات المحلية.
كانت الحرب العراقية – الايرانية في شدتها في منتصف الثمانينيات عندما لاحت ضرورات الاتفاقية الأمنية مع تصاعد الحرب وبروز الارهاب، الذي ضرب البحرين أولا ثم الكويت والمملكة، ومع البدء في تنفيذ بنود الاتفاقية الاقتصادية التي تعطي المواطنين المساواة في الامتيازات المالية والتجارية وفي المقاولات وفي السكن وكل ما يطلق عليه المواطنة الاقتصادية الخليجية.
كان لابد من وضع اطار ينظم التعاون بين أجندة وزارات الداخلية لتفعيل حق المواطن الخليجي في الامتيازات وضبط المسؤوليات، بحيث يدرك التاجر والمستوطن في بلد غير بلده بأنه غير آمن مهما تجول في دول المجلس من المساءلة اذا ما أساء لقوانين الدولة التي يعمل فيها، وأن دولته ليست في وضع يؤمن له الملاذ الذي يحتمي به.
كان مشروع الاتفاقية الأمنية يسعى لتحقيق هدفين، الأول التعاون حول الارهاب وافرازات الحرب العراقية – الايرانية، وتأمين سلامة أراضي الدول الأعضاء من لهيب الحرب وافرازاتها، والثاني وضع ضوابط تمنع سوء استغلال الامتيازات التي تمنحها الاتفاقية الاقتصادية للمواطنين.
بدأت الاجتهادات حول الاتفاقية في منتصف الثمانينيات في البحث عن الصيغة المناسبة، وجاءت الصيغة الأولى بملاحظات من الكويت حول ثلاث نقاط: تسليم المواطن- وترى الكويت محاكمته في وطنه اذا ما استطاع الوصول اليه، والمطاردة البرية عبر حدود الدولة العضو التي تسمح للدوريات بتجاوز الحدود، بالاضافة الى غموض التعبيرات حول الجريمة السياسية.
وعاش وزراء الداخلية في أجواء من الاجتهادات بين الشد والجذب، وكنت مشاركا في تلك الاجتماعات وأتفهم الوضع الذي كان فيه وزير داخلية الكويت في ذلك الوقت – الشيخ نواف الأحمد الجابر، سمو ولي العهد الحالي – حتى جاء الغزو المشؤوم، وعندها أدرك الرأي العام الكويتي حجم الدعم ومساحة الاحتضان والمردود الأمني والاستراتيجي والحياتي لمجلس التعاون.
ومع ذلك لم تسلم الاتفاقية، وحتى بعد اسقاط البنود التي لا تريدها الكويت من الاعتراضات والقراءات التي تذهب بعيدا في تفسيرات لم تأت على بال مهندسي الاتفاقية.
خلال المنتدى الذي نظمه البرلمان الكويتي في الأسبوع الماضي حول الاتفاقية الأمنية، شعرت بأن هناك ضرورات ملحة في تقديم شرح صادق وشفاف وواضح عن معاني الاتفاقية من قبل وزارة الداخلية وجهاز الحكومة، وأن يتحرك مجلس الوزراء الذي أحال المشروع الى البرلمان لتدشين حملة تثقيفية تقدم واقعا واضحا وصريحا للاتفاقية وأغراضها ومبرراتها لأننا لا نستطيع تجاهل ان الأجواء تنذر بخلافات والمواقف تتعارض، والتفسيرات لا تنحصر في المعاني التي تأتي حسب الفهم العام للمفردات وانما توجد قراءات سياسية تزركش معاني أخرى وتبث ألوانا غير التي نراها وتنقب عن الخشن في أحشاء كل جملة وتقلب السطور في ملاحقات بحثا عن المختفي.
هذه هي السياسة، وعندما نتوقف أمام بيان التحالف الوطني الاسلامي حول الاتفاقية نصل الى قناعة بأن البيان طغت عليه اعتبارات غير التي جاءت في مفردات الاتفاقية.
كنت أستمع الى مداخلة النائب صالح عاشور، رئيس لجنة الشؤون الخارجية، متذكرا حوارات الأمم المتحدة حول مشروع القرارات التي تناقشها الوفود لأن القراءات السياسية لا تقف عند الحروف المطبوعة، وانما تتسرب الى النفق الصامت بحثا عن شيء آخر لم يأت على بال واضعي النص.
ومهما حاولنا فلن تتبدل المواقف النابعة من قناعات لابد من أخذها في الحسابات السياسية والحكم النهائي للمرجعية البرلمانية داخل المجلس، كما كنا نعمل في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث نحتكم للتصويت في محفل سياسي دولي.
ولابد ان تدرك حكومة الكويت بأنها معنية بتأمين التصويت الايجابي للاتفاقية وأن تدرك أيضا بأن المشكلة السياسية العويصة والمزمنة في الكويت ان ركبتها تهتز مع سخونة القرار، الى درجة تدفعها الى البحث عن حلول وسط فيها تمييع للجوهر، وقد كنت من الذين يرون ضرورة المشاركة في اطار درع الجزيرة عندما استضافته البحرين في الماضي القريب، بدلا من الضبابية السياسية التي لا تعطي الكويت العائد الذي تستحقه.
ونردد بأن مجلس التعاون هو حاضن الكويت في حسن هندامها وفي أجمل حلتها، وفي ضعف قرارها أيضا، وعلاقتها بالمجلس هي تأمين حياة واستقرار وطمأنينة، وهي في عقد دائم، وملزم على الجميع فيه امتيازات وفيه تبعات، ولا مجال للاختيار نحو الطريف والمنعش وتجاهل الثقيل والمتعب، خاصة وأن الدول الخمس الأخرى وقعت على الاتفاقية وفي انتظار المصادقة عليها لكي تصبح وثيقة تعاقدية جامعة.
وهنا نحتكم بالدستور ونتحصن بالقراءة المباشرة لبنود الاتفاقية مع مقارنة سليمة وبعيدة عن تدخلات الأشباح والعفاريت التي نتصور سكونها الصامت والمختفي في بطون النصوص انتظارا لفرصة مناسبة تلدغ فيها الكويت وتؤذي دستورها.
ونكرر مرات بأن مجلس التعاون عقد بين الأعضاء في مسيرة جماعية تتطلب المرونة والابتعاد عن المبالغات في معاني السيادة في زمن تجمع الكيانات وفي عصر العولمة وفي زمن المشاكل المتورمة التي تحلها التجمعات الاقليمية ولا تكفيها ذراع الوطن الواحد.
ونكرر أيضا بأن سلامة الكويت والحفاظ على أمنها وعلى سيادتها واستقلالها توجد في آليات الردع النافذ جماعيا مع دول المجلس ومع التحالفات العالمية، وتنتشي الكويت داخليا في برلمانها وصحافتها وضجيجها طالما استمر هذا الجدار الخليجي والعالمي الرادع، ونقول أيضا بأن الخليج محمية عالمية لمسببات كثيرة منها الطاقة ومنها الاعتدال ومنها التوازن الاقليمي.
هذه حقائق الحياة لا سبيل لتجاهلها، وغير ذلك تبقى ممارسة جدلية في فنون السياسية..
كلمة الختام لمعالي النائب الأول، وزير الداخلية، الشيخ أحمد الحمود الجابر بأن يتواصل بالحوارات السياسية عبر دعوة لرؤساء الصحف والقنوات الخاصة لشرح الحقائق، والتأكيد بأن التزام الكويت نابع من قناعة بفوائدها للوطن وللمجلس، في موقف جدي للتصدي للمساعي التي تدور من أجل خلق معارضة وطنية سياسية واعلامية جماعية تلوث كل المفاهيم السليمة التي يجسدها المشروع وتشيطن أهدافه للاجهاز عليه.
عبدالله بشارة
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق