على مبدأ رب ضارة نافعة نرى ان قضية “الداو” ورغم فداحة الغرامة التي ستتكبدها الكويت ستكون لها فائدة واحدة وهي فضح نواب التهم المعلبة ومدى اضرارهم بالبلاد, فما حدث ليس اول المآسي الاقتصادية والسياسية الناتجة عن سلوك هؤلاء, وربما لن يكون الاخير اذا لم يرتدعوا, فبالامس القريب دفعوا الى توتير الجبهة الداخلية عبر ما اسموه”التحويلات الخارجية”, وعملوا على تحريض بعض شرائح الشعب التي صدقت كلامهم حينها, لكن وقائع حكم محكمة الوزراء كشفت تدليسهم, واكدت ان تلك التحويلات ذهبت في مساراتها الصحيحة, ولم تصرف كرشاوى, كما لم ينفقها سمو الشيخ ناصر المحمد على نفسه.
لكن هؤلاء لم يقبلوا بهذا الحكم التاريخي لانهم سعوا الى الادانة حتى لو زورا,ً فعمدوا الى اختراع مخالف لكل القوانين والدساتير والاعراف الديمقراطية وارسلوا رسالة الى مجلس القضاء الاعلى ممهورة بتوقيع رئيس مجلس الامة احمد السعدون يطلبون فيها ان يكون لهم وحدهم حق الحكم على الوزراء, الا ان رد المجلس كان قاسيا واوقفهم عند حدهم باعتبار ما يرغبون به مخالفا للقانون, وخروجا على مبدأ الفصل بين السلطات.
ليست مسألة “التحويلات” آخر مطاف التصعيد والكذب الذي تمارسه هذه الجماعة, فقضية “الايداعات المليونية” التي افتعلتها وأججت بها مشاعر الناس ضد بعض نواب المجلس السابق واتهامهم بتلقي الرشاوى والعطايا, وربما السرقة ايضا, هي الاخرى من ابتكارات مصنع الكذب نفسه, لكن وحسما لكل جدل تجاوبت السلطة معهم وحلت مجلس الامة لعل الامور توضع في نصابها الصحيح, وبدأت الحقيقة تتكشف واتضح انهم سعوا بذلك الى تضليل الناس ليحققوا اجندتهم الخاصة بالسيطرة على مجلس الامة.
ورغم ان القضية لا تزال منظورة امام القضاء الا ان كل ما رشح عنها حتى اليوم يثبت زيفها, وهي ستنتهي كغيرها الى طريق مسدود, لان فاقد الشيء لا يعطيه, فمن اين سيأتي بالملايين من اتهموه بتلك الفرية الكبيرة ليودعها في حسابات اولئك النواب, وكل امر في البلد يخضع للرقابة والتفتيش?
بالامس القريب ترك لهم سمو الشيخ ناصر المحمد الجمل بما حمل جراء كل ما مارسوه من كيدية وعبث, وحرصا منه على الكويت ومستقبلها, الا ان هذا الموقف الوطني افقدهم صوابهم فراحوا يتخبطون في مواقفهم الى حد اخذهم فجورهم بالخصومة للعبث بكل شيء في البلاد, فمرة يرمون اخطاءهم على غيرهم وفي اخرى يهددون بالعودة الى الشارع للتغطية على عجزهم, والمفارقة انهم اغلبية في مجلس الامة, يبقى ان الامر الجيد في كل هذا هو ان الناس اكتشفوا حقيقتهم وادركوا انهم طلاب سلطة واكثر من يهدر المال العام و”الداو” اكثر الامثلة وضوحا في هذا الشأن, كما اكتشفوا ان كلامهم المعسول محاولة للاستمرار اطول وقت ممكن بالهيمنة على الناخبين.
لا شك ان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء, وما حققه هؤلاء من اغلبية نتيجة التحالفات القبلية والطائفية والفزعات وانتخاء العزوات لن يتكرر ثانية, لان هذه الغالبية الفسيفسائية لا هدف لها الا السلطة, فكل واحد فيها منّى نفسه بالشيخة والسلطة وظن انها ستقدم اليه على طبق من ذهب, لكنه الان بات عاريا تماما امام الناس, ومن صدّق في الماضي لن يلدغ من الجحر نفسه مرة ثانية.
الشعب يراقب, وقد ادرك في الاربعة اشهر الماضية ان الاكثرية النيابية كيدية انتقامية مفلسة سياسيا, ولا تعبر عن طموحاته ابدا, بل انها في كل ما اقرته من قوانين زجرية كانت تعمل على قوننة قمعه والحد من حريته والتعدي على صلاحيات مسند الامارة ومصادرة القضاء ونزع الاستقلالية عنه, والزحف على صلاحيات الحكومة من اجل فرض ارادتها المشبوهة على الشعب, وهو ما يخالف طموحات الناس ورغباتهم.
اكثرية الشعب الان مدركة مدى خطورة محاولة تزوير بلاغ اقتحام مجلس الامة, وتعرف ان الهدف منه هتك حرمة المؤسسات الدستورية كافة, والتمهيد لفرض منطق القوة والفوضى وتحقيق المآرب الشخصية بالخروج على القانون, فليس ما اسمته تلك الجماعة النيابية “تصحيح البلاغ السابق” الا جرس الانذار الواجب على الجميع الاستماع له جيدا, لان مجرد الاخذ بهذا التزوير سيؤدي الى ترسيخ مبدأ التزييف تحت ضغط الغوغاء, وللاسف ان من وقّع على رسالة التزييف هذه هو رئيس مجلس الامة الحالي احمد السعدون, المفترض به ان يكون الساهر على حفظ حرمة بيت الديمقراطية, لكنه اثبت عكس ذلك وفعلا لا يتجنى احد عليه اذا قال انه اصبح ألعوبة بأيديهم يمررون عبره ما يريدون, بل هم لا يخفون ذلك, الم يقل احدهم:” نحن اتينا بالسعدون ونحن من يبعده عن الرئاسة?”
المآسي الاقتصادية التي تسببت بها هذه الغالبية اصبحت الدرس الواجب على جميع القطاعات الاقتصادية التعلم منه, وهنا ربما يكون على غرفة التجارة والصناعة, ومجموعة ال¯26 اعادة النظر في بيانيهما المشهورين اللذين فيهما وقعا في المحظور بعد ان انطلت عليهما الخدعة ووقعتا ضحية تضليل تلك الجماعة حين تبنتا خطاب جماعة الإفك, ولهذا ما على الغرفة ومجموعة الست والعشرين الا التمعن مطولا في قضية صفقة “الداو” ومن اجهضها, وكيف خاضت ميليشيا الابتزاز السياسي معركة شرسة في سبيل ذلك, وللتاريخ نذكر اننا حذرنا كغيرنا من مغبة الاقدام على الغاء الصفقة وكذلك فعل وزير النفط السابق محمد العليم, الا ان تلك الميليشيا خونت كل الذين عارضوا الالغاء وهددت بالويل والثبور والاستجوابات وبالشارع اذا لم تلغ الصفقة.
نعم, بيان غرفة التجارة ومن بعده بيان مجموعة الست والعشرين لم يكونا موفقين في ذلك الوقت, بل ساهما بالأزمة التي افتعلت في تلك المرحلة, وربما تكونان الان قد ادركتا ان مثلما اتت اباطيل نواب التدمير الممنهج على اليابس ها هي تأتي على اخضرهم, وأخضر الغرفة وأخضر مجموعة ال¯ 26, فماذا ينتظرون بعد “الداو” اثباتا اكثر من ذلك, وماذا سيقولون عن القوانين الزاجرة المقيدة للحريات وعن محاولات تلك الجماعة المس بمسند الامارة? بل ماذا سيكون موقفهم من ذلك النائب الذي قال لاحد الديبلوماسيين:” ان الاسرة الحاكمة ذاهبة والمستقبل لنا نحن”, او من زميله الذي قال:” اذا حل مجلس الامة سنرفع سقف مطالبنا”? اليس في هذا الكلام دلالة واضحة على نوايا تلك الجماعة وما تبيته للكويت من خراب للاقتصاد الوطني والنسيج الاجتماعي الكويتي?
امام كل هذه الوقائع بتنا بحاجة ملحة الى ان تتحرك المراجع العليا ومعها اهل الكويت ونخبتها الوطنية للحفاظ على بلدهم ليضعوا حدا لهذا السرطان العبثي التخريبي الذي تعمل جماعة التأزيم النيابي على نشره في جسد الكويت, وحتى لا نجد انفسنا في مستقبل قريب اسرى لسلوك سياسي لم نعتده ابدا, وحتى لا نرى مجلس الامة وقد تحول فعلا مجلس قيادة ثورة تخريبية.
أحمد الجاراله
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق