لا أحد يشبه فنان العرب في تَحرُّكاته ورؤيته للساحة الفنيَّة، مع خالص الحب والتقدير لبقية الفنانين الذين كل منهم يعمل وفقًا لما يراه مناسبًا، لكن محمد عبده الذي طالما (استلذّ) بتحريك ساكن الساحة منذ أكثر من خمسين عامًا، يعتقد بأن الوقت مهمٌ في صمته وغنائه.
بعد سنوات يراها الجمهور (طويلة)، طرح فنان العرب الأستاذ محمد عبده عمله الجديد (بعلن عليها الحب)، وهو عمل موسيقي طربي باذخ بامتياز اكتملت فيه عناصر النجاح من الكلمة واللَّحْن مرورًا بالصوت، أما التوزيع الموسيقي ففيه البصمة المعتادة لأعمال فنان العرب الموسيقية.
فائق عبدالجليل وهو شهيد الثَّقافة والشعر الكويتي الذي كان له مع فنان العرب قبل عشرات السنين رائعة لا أظنها تموت، وهي رائعة (المعازيم)، ثمَّ غنى له أيضًا محمد عبده (آخر زيارة)، عاد فنان العرب بعدها ليقدم له وفاءً آخر بغنائه رائعة (بعلن عليها الحب) التي صاغ لحنها طلال بطريقة (عجيبة) كواحدة من الأغاني المكبلهة التي تشنف آذن المستمعين.
صوت فنان العرب يزداد عذوبة كُلَّما تقدم به السن، والمستمع له في هذا الألبوم يجد صفاءً عجيبًا ومساحات في الصَّوت لا يصل إليها سواه.
فنان العرب ليس منفصلاً عن الواقع، وكذلك فريق العمل معه مثل كتّاب الكلمة أو الملحن أو الفريق الموسيقي وهذا الجهد الكبير من تسعة أعمال متنوّعة يستحقُّ الملحن طلال عليها تقديرًا خاصًا لهذا التنوّع الشامل في الجمل الموسيقية التي كانت مرضية لِكُلِّ الأذواق.
محمد عبده عاد من جديد ليعلن عبر التاريخ أن الصفحات ما زالت تُؤكِّد أن الإبداع ما زال ينبض في قلب هذا المهمَّة الفنيَّة الكبيرة التي لا تزال تشع توهجًا، محمد عبده عاد لمعانقة جماهيره العريضة من الخليج للمحيط، وليؤكِّد للجميع أنّه ما زال بحرًا لم ينضب من الجمال والإحساس المليء بالشجن الذي أصبح قوتًا لا يفارق عُشَّاق فن العرب من فنان العرب.
عودة محمد عبده ملأت الدُّنْيَا (فرحًا) وأعادت لعشاق الفنّ (ثقتهم) بأن هذا (الصرح) ما زال عاليًّا بقامته ومسيرته وإشراقته من جديد ليس إلا (حلمًا) حمل في معانيه أجمل رسالة من (فنان) إلى (جمهور) مفادها (أنا بخير).
بعودة فنان العرب سليمًا معافي إلى جمهوره عادت الأصالة إلى الفنّ بعد ليل بغيض امتلأ بالأصوات الرَّديئة والدخيلة بأمر المال (والأمور الأخرى) وعودة هذا المعْلم الكبير والجميل والأصيل ليست إلا خيبة لهم، لأنهم بإيجاز (نشاز).
آخر إصدارات محمد عبده وعبر تعاونه مع روتانا ظهر بعنوان (بعلن عليها الحب) رائعة شاعر الأجيال الشاعر الراحل فائق عبدالحليل الذي كثيرًا ما عانقت قصائده صوت محمد عبده في أعمال خالدة:
كانت البداية قرار جاء بعد تفكير وتبرير ودعاوى لحال عاشق امتلأ قلبًا شوقًا خافيًا عنها آملا الشجاعة التي تعلن ذلك الحب..
باقولها الليلة.. باقولها
واهدم جدار الخوف.. بيني وبينها
عدا على الوقت..
بين انتظار وصمت..
بعلن عليها الحب
واسمع ردها
يا لطيف.. ألطف على بردها..
مقطوعة رائعة احتوت القرار والتبرير والحال الذي تَمَّ بناء عليه هذا الإقدام الملئ بالخوف من الردّ المنتظر.. وبقي الدُّعاء الأخير معانقة بين الرَّغبة والرهبة اجتمعتا في قلب العاشق في صورة تمكَّن الشاعر في رسمها بالشكل الجميل والرائع، ليقوم محمد عبده بنثرها على مسامع الجميع في جملة موسيقيه رائعة.
وفي فصل آخر مكمل للبداية الجميلة عاد بالحديث إليها ليخبرها عن قيمتها ومكانتها وشعوره أنَّها تعي وتدرك ما مرّ به من حالات حب خفي:
حبيبتي آخر محطة بسكتي
حبيبتي آخر محطة بدنيتي
انا عندي إحساس انك تستشفين المعاني
انا عندي إحساس أنك تعرفين شلون أعاني..
في زياراتي في سلامي في كلامي في ضياعي..
في ارتعاش الكف.. وانتي في وداعي
تصوير جميل لِكُلِّ ما يدور في (أروقة القلب) من مشاعر غارقة في حب لا يعرف الكتمان لا يعرف الاختباء عنها.. حب ظاهر في كلِّ الحالات، وشعور صادق أن كل ما يمرُّ به من (حب) لا يكاد يخفى عنها..
اإنها الحالة الغريقة التي عجزت عن الصَّبر حتَّى النهاية..
حالة فريدة من (الحب) وصلت إلى (مفترق) طرق..
أما الإعلان وانتظار الردّ أو النهاية واليأس:
حالتي ميئوس منها
وانتي مسئوله عنها..
عدا على الوقت..
بين انتظار وصمت..
بعلن عليها الحب
واسمع ردها
يا لطيف.. الطف على بردها..
لن تكون هناك معوقات تتحكم في مواصلة الصَّمت -هكذا كانت النهاية – إعلانًا لا مفرَّ منه، رسم صاغه (الفائق) ليملأ الدُّنْيَا (تغريدًا) بصوت فنان قدر أن يوصل هذا الحب -رغم – ادعاء الكتمان إلى الشروق كشمس لا تعلم عن حال السَّماء التي تنتظرها إن كانت (صافية) زاهية أم غيوم (قد) تخفي الردّ المأمول والمنتظر:
بأقولها وبأيِّ ثمن..
بعلنها في سمع الزمن
واكشف لك السر اللي
في عمري اندفن..
مجبور مالي اختيار
باسدل على صمتي الستار
في زياراتي في سلامي في كلامي في ضياعي..
يا لطيف يا لطيف كيف القدرة التي تغيب عن الكثيرين التي انفرد بها محمد عبده بإعادة هذه القصيدة التي حظيت بإعجاب الكثيرين إلى العلن بصيغة أخرى (زادت) تألقًا و(إجلالاً) بصوت رائع، وبلحن أخّاذ:
في ارتعاش الكف.. وانتي في وداعي
حالتي ميئوس منها
وانتي مسئوله عنها..
عدا على الوقت..
بين انتظار وصمت..
بعلن عليها الحب
واسمع ردها
يالطيف.. الطف على بردها..
2- وضم ألبوم محمد في ثاني الأعمال تعاونه مع إبراهيم خفاجي رفيق الدرب الذي لا يعد غريبًا على صوت محمد عبده فسبق لهما أن اجتمعا في أعمال سابقة، ما زالت الأجيال ترددها حتَّى بعد حين.
عمل جميل في عباراته وفي طرحه وقد يكون اعتماده على الكلمة البسيطة التي عرف بها إبراهيم خفاجي دور في وصول هذه الأغنية إلى المُتلقِّي بِكلِّ سهولة ووضوح، وجاء منها:
كلام القلب دقاته عجايب
ونطق العين في النظرات ذايب
يا أغلى كلام في دنيا الغرام
لوحدك أنت فاهمها ومين غيرك يترجمها
لأحلى مذاق لغات الحب للعشاق
3- كما ضمَّ البوم محمد عبده أغنيتين من كلمات الشاعر خالد المريخي جاءت الأولى بعنوان (وحدة بوحدة) واعتمدت في طرحها على التوزيع السَّريع الذي يعد (نادرة) في أعمال فنان العرب إلا أنَّه اختار أن يكون من ضمن الألبوم عمل يواكب هذا الطَّرح الذي اعتمد على العتب القوي وجاء منها:
وحدة بوحدة وانته يا ظالم بديت
احنا كذا حلوين والبادي اظلم
معقولة تجرحني وانته ما دريت
ولا تحِس بحالتي ولا تالم
4- ومن كلمات المريخي أيضًا صدح الفنان الكبير محمد عبده بأغنية (أموت واعرف) كلمات رائعة في تناغمها، ولحن سهل ممتنع أعاد -لِمَنْ يعرف- الأعمال الخالدة لفنان العرب التي توّجت بصوته الشجي وكيف تمكَّن من فرض صوته من خبرته الكبيرة في سرد القصيدة بِشَكلٍّ مميزٍ كرسالة عاشق توقفت به السُّبُل للبحث عن الإجابة:
اموت وأعرف بس وش جاك مني
أحد على تعذيب قلبي موصيك
ما فيه أحد كثرك بقسوة طعني
وانا اللي دوم أقول فيني ولا فيك
وظهر البيت الأخير كوصف جميل وخلاصة رائعة لماضي الحب الرائع الذي تبدَّلت أوضاعه لأسباب يجهلها وبوادر أسئلة تبحث عن إجابة كان صوت محمد عبده كفيلاً بالشُّعور بها من خلال الصدح بها:
قلي انته سامعٍ شي عني
وان كنت مخطي من عيوني أراضيك
لكن بلا سبه حرام التجنِّي
عادي إذا مليتني قول ما بيك
عندما تتحدَّث المشاعر بصدق تنقشع غيوم الحيرة وتشرق شمس الحقيقة، ولأجل ذلك كان لا بُدَّ من المواجهة التي أبدع (المريخي) في سردها بِشَكلٍّ لافت بعد أن خضعت كلماته إلى معانقة ذلك اللَّحْن البسيط الذي نتج عنه ظهور ذلك (الإحساس) صادقًا كما أراد، شجيًا كما أراد فنان العرب:
منت أول اللي فيهم إيخيب ظني
ما خذ على الصَّدمات من قبل ألاقيك
فيك وبلياك الخفوق امتعني
الله يجازي الحب والله يجازيك
ولأن الحقيقة دائمًا ما تنتهي بالظهور كان المقطع الأخير الأكثر إحساسًا و(ألمًا) عندما عانق الختام (بأحلى كلام)، الألحان متى ما وظفت بشكلها الصحيح مع أجمل الكلمات وتوّجت بصوت ملئ بالشجن لا بُدَّ أن يظهر العمل بتحفة فنيَّة لا يتمكَّن منها إلا من (اعتاد) التألق.
5- وفي خامس الأعمال عانقت قصيدة (حاولت) التي صاغ كلماتها الشاعر الكويتي مبارك الحديبي صياغة رائعة خفيفة على المسمع لكنَّها كبيرة المعنى وجميلة الطرح.. محاولات عديدة للهروب انتهت بالاعتراف، قصيدة من الزَّمن الجميل عانقت الصَّوت الأجمل الذي اعتاده محمد عبده فحافظ على تناغم الكلمات وأبدع أكثر في مواكبة السرد لتكون أحد أجمل الأعمال في هذا الألبوم وجاء منها:
حاولت أجمع لهفتي وأغمض عيوني وأطوف
حاولت أغير وجهتي واسوي نفسي ما شوف
حاولت اعاند الصدف وحاولت اعاند الظروف
حاولت أغير وجهتي واسوي نفسي ما شوف
محاولات عديدة في الهرب من حقيقة أخرى كانت في طريقها (في كلِّ حال من الأحوال) للظهور ليس لشيء ولكن بأمر الحب لا بُدَّ وأن تظهر الحقيقة، الوقوف في وجه اللهفة والصدفة واللامبالاة لا يعني القطرة على الهرب وهذا ما عناه الشاعر وصدح به بطريقة رائعة محمد عبده:
وقررت انسى كل شي والملم جروحي واصد
وامرت قلبي المشتقي وقلت يا قلبي استعد
هذا طلب مني وامر اسمع كلامي وابتعد
وامرت قلبي المشتقي وقلت يا قلبي استعد
وبالرغم من المحاولات كانت هناك قرارات أخرى للابتعاد الصَّعب عن حقيقة مرهقة.. هل هناك أصعب من إجبار القلب على أمر لا يقدر عليه.. هو ما نثره الحديبي ولونه فنان العرب بطريقة سردية توحي أن الحديث كان ظاهرًا من قلب الشاعر نفسه وهو أجبر المستمع إلى التصفيق لقدرات هذا الرائع في محاكاة الحدث بكامل الإحساس:
لكني يا عمري ضعف وغصبٍ على حالي وقفت
وجيتك بخطوات النَّدم وبكل ما عندي اعترفت
وقدَّمت يا روحي العذر وبأغلى ما عندي حلفت
جيتك بخطوات النَّدم وبكل ما عندي اعترفت
وكانت نهاية المشهد كما كان متوقعًا عودة واعتراف وندم وأغنية رائعة تختصر في سردها أجمل حكاوي العشق الرائع في حلقاته وفصوله وأجزائه.
6- وفي عمل آخر يجمع الحديبي مع فنان العرب (حس طاري) وهو عمل جميل في نصه خفيف في طرحه، جاء منه:
حس طار يرني
تالي اللَّيل يرنع
سمعت اللي يغني
بالمعاني ويسجع
7- ومن جماليات هذا الألبوم تظهر أغنية (نجم عالي) التي صاغها شعرًا الشاعر الجميل أحمد علوي لتضم إلى ركب الأغاني التي امتزجت بعطر الوصف وعمق المعنى وجماليَّة الأداء الذي اعتاد محمد عبده التألق فيه:
نجم عالي ما تشوف العين غيره لي ليالي عاشق وقلبي اسيره
آه لو بيدي واخذته من سماه آه شسوي وذا حالي معاه
شوف عيني لكن ايديني قصيره نجم عالي ما تشوف العين غيره
نجم عالي نجم عالي ما تشوف العين غيره
كانت البداية وصفًا جميلاً من الشاعر لحبيب بوصفه نجمًا في السَّماء وبالرغم من العدد الهائل التي حوته من نجوم تتلألأ فيها إلا عين العاشق لا ترى سوى نجم المحبوب الأجمل وحده منفردًا في قلبه بِكلِّ ما فيه من مشاعر وأحاسيس، إلا أن الأمل عادة ما يجثوا انكسارًا إلى حقيقة البعد:
حب قلبي شوفتي له كل ليله ضاع دربي وما لقيت إلا دليله
هو يحس فيني وهو مثلي وحيد ومالي إلا شوفته ولو من بعيد
غصب عني ولا باليد حيله نجم عالي ما تشوف العين غيره
نجم عالي نجم عالي ما تشوف العين غيره
في هذا المقطع الجميل تتعانق مسامعنا بصوت محمد عبده ينبض بجماليَّة الأداء والإحساس وهو ما أبهر كل محبي فنان العرب وزادهم شغفًا بالطريقة التي لا يزال يغني بها ويصدح رغم تعاقب الأجيال إلا أن النِّعْمة التي وهبها الله له بالصَّوت الشجي أعيت من يبحث عن منافسته أو حتَّى تقليد مسيرته:
من نهاري ألف هم وألف ضيقة وانتظاري ما بقيت شكوى تطيقه
وكل ما جا اللَّيل أتمنَّى يطول وأرفع عيوني واناظر به وأقول
مالي غيرك يا هوى اللَّيل ورفيق نجم عالي ما تشوف العين غيره
نجم عالي نجم عالي ما تشوف العين غيره
8- وفي أغنية الورد (شقايق النعمان) من كلمات طارش قطن كان لمحمد عبده تعاونٌ جديدٌ وجاء منه:
شقايق النعمان.. ترقص على الخدين
كل الحلا قد بان.. من طرفك النعسان
يا ورد يا فواح.. لجلك تميل العين
يا راحة الأرواح.. متى اللقا يا زين
كشفت لك ما صار.. وبحت بالأسرار
وانت الذي تختار.. بين اللقا والبين
9- ومع اللَّحْن البحري كان لمحمد عبده تعاونٌ من كلمات سعد الحميد في أغنية (شكينا لك)، حيث جاء فيها صوت فنان العرب كموجة بحر هادئة وجاء منها:
شكينا لك وقلنا لك وانت شايف حالك
حلفنا لك ومع ذلك ما جينا على بالك
احنا الشَّوق ذابحنا وانت الشَّوق ما جالك
شكينا لك وقلنا لك وانت شايف حالك
الألبوم بمجمله الذي صاغه لحنا (طلال) كان إطلالة لمحمد عبده لجمهوره الكبير بعد العارض الصحي الذي غيبه عنهم لفترات طويلة الذي تجاوزه -بحمد الله -سالمًا معافى.
عودة فنان العرب هي عودة للفنّ الخالد الذي لا يعرف الغروب وتتناقله الأجيال من جيل لآخر الذي يحمل رايته في هذا العصر فنان الأجيال محمد عبده ليؤكِّد أن الإبداع ما زال في أيد أمينة ومقتدرة ورائعة كروعة هذا الألبوم
قم بكتابة اول تعليق