نحن في الكويت استنزفنا تماماً منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي في معارك كانت في حينه مهمة للدفاع عن المجتمع المدني الحضاري الذي خسرناه لعدة أسباب، وأضحت هذه المعارك حالياً وبعد تلك الخسائر تافهة، يريدها التيار الأصولي الديني من أجل الدعاية والانتشار، كما فعل سابقاً في قضايا الحجاب ومنع الاختلاط في التعليم الجامعي والنظام المصرفي الإسلامي وهيئات مشابهة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها كانت معارك مربحة للتيار الديني بعد صدمة هزيمة 1967، وسقوط كل فلسطين، والفشل التام للمشروع القومي الذي أداره العسكر والمستبدون في مصر وسورية والعراق، وبروز النموذج الأصولي نتيجة لذلك، الذي أخذ فرصته للحكم أيضاً بعكس ما يروج في السودان (الإخوان المسلمون) وأفغانستان (السلفيون)، وكانت نتائجه مروعة باحتلال أفغانستان وتقسيم السودان.
الجديد اليوم أن أغلبية مجلس الأمة 2012، التي أتت نتيجة معركة انتخابية متطرفة طائفياً وقبلياً، كان أحد أسبابها الرئيسية حسابات التيار المدني الخاطئة، تريد أن تجر التيار المدني الوطني إلى المعركة التي خبرناها منذ السبعينيات بطرح مشاريع تعديل المادة الثانية وأسلمة القوانين وقانون الحشمة والحسبة وهيئاتها، فينجر التيار المدني للمواجهة المؤذية والسخيفة التي لم تثمر شيئاً لأن السلطة تنحاز في النهاية إلى جانبهم، وإن أظهرت خلاف ذلك، فهم أقروا منع التعليم المشترك في جامعة الكويت، وهمشوا قدراتها ومستواها التنافسي، وأقروا ضوابط الحفلات فحولوا هوليوود الخليج إلى مراعي للمطاعم كأفضل وسيلة ترفيه في ربوعها، وطبقوا النظام المصرفي الإسلامي فضاعت غالبية مدخرات المواطنين في الشركات الإسلامية المتعثرة والمفلسة في البلد، وهيمنوا على التعليم فصار يخرج لنا المتعصبين الطائفيين الذين يشكلون غالبية جمهور ناخبي البرلمان الحالي، الذين يتبادلون آهات الإعجاب والتشجيع للمعارك الطائفية التي تدور تحت قبة قاعة عبدالله السالم.
لذلك فإن المصيبة أو الكارثة التي تواجه البلد هي انفراط انسجامها ووحدتها الوطنية، والتدحرج نحو سقوط دولة القانون والمؤسسات لحساب الطائفة والقبيلة والمصالح المالية، وفي ظروف كهذه لن ينفذ قانون الحشمة في دولة لم تقدر على تطبيق قانون منع التدخين في الأماكن العامة، وهو هرطقة بمعنى الكلمة في بلد مثل الكويت متنوع الطوائف والأعراق ومفتوح، من الصعب أن يغير بالقوة والأطروحات المتشددة، لذلك فعلى التيار المدني أن يعي متطلبات المرحلة المقبلة الخطيرة بعد فشله الذريع في المرحلة السابقة، واستدراجه في معركة سياسية بأسلوب فرضته التيارات الأصولية الدينية والعرقية، وأدت الى انتخاب برلمان بنفس أصولي طائفي يعزز التوتر والمواجهة المذهبية والعرقية في المجتمع.
ومن أهم متطلبات المرحلة المقبلة أن يكون المشروع والأولوية لدى التيار المدني هو إعادة بناء الدولة المدنية، دولة المواطنة والحقوق والواجبات المتساوية، في مقابل مشروع المواجهة الطائفية والعرقية، التي نرى ملامحها في كل جلسة من جلسات مجلس الأمة منذ بداية أعماله، والتي على أساسها حصل التيار الأصولي على أغلبيته البرلمانية بعد نجاحه في استخدام الظروف الإقليمية لإشعال النعرات المذهبية لأغراض سياسية لدى العامة، وعليه فإن مشروع الدولة المدنية، الذي سيسقط كل قوانين التطرف التي تتعدى على حريات الناس في الملبس والتعليم وخلافه، أو هو المشروع الذي يجب أن يجتهد التيار المدني في تقديمه بكل تفريعاته وفي جميع المحافل الوطنية والأوساط الاجتماعية والسياسية والطلابية والمهنية، هو الذي سيمثل الخلاص من بعد أن تخور قوى طرفي النزاع الطائفي في داخل البرلمان وخارجه، وتبدأ تتضح للناس فداحة خسائر التوتر والمواجهات المذهبية المستمرة في البلد، والأهم في خضم حمل وتقديم هذا المشروع هو أن يبعد التيار المدني عن لعبة أجنحة الحكم في هذه المرحلة، لأن ثمنها سيكون باهظاً جداً عليه، وسيفقده ما تبقى له من مصداقية، لأن تلك الأجنحة جميعاً لا تمانع أن تقدم للتيار الديني الأصولي ما يريده في مقابل أن تحصل على مكاسب آنية أو تؤمن ما حصلت عليه من مكاسب خلال الفترة الماضية.
***
جماعة حدس (الإخوان المسلمون) يستشهدون دائماً بتجربة الإخوان في الحكم في تركيا حالياً… وهذا تشبيه واستشهاد مع الفارق، فحزب العدالة والتنمية التركي لم يغير رمزاً واحداً من رموز تركيا العلمانية، بل إن زعيمهم أردوغان طالب المصريين في القاهرة باعتماد النموذج العلماني للدولة المصرية… وأقصى ما قدمه إخوان تركيا هو حجاب رمزي لزوجات بعضهم، ولم يحاولوا تغيير النظام المصرفي والتعليمي التركي، لذلك نجحوا في النموذج الإسلامي المدني الحديث، وإذا كان ربعنا الإخوان سيعتمدون نموذج زملائهم الأتراك ويعلنون ذلك على الملأ فإننا أمام فتح جديد في العالم العربي.
عبدالمحسن جمعة
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق