من السمات الأساسية للمجتمعات الديمقراطية التضييق من تطبيق عقوبة الإعدام إلى درجة أوشكت فيها هذه العقوبة على الانقراض، وهو ما تتبناه المنظمات الدولية لحقوق الإنسان والتي تطالب بالتضييق من تطبيقها.
أخطاء القضاة
ومع ذلك فمن الخطأ الاعتقاد بأن مهمة أي مجتمع يواجه ظاهرة إجرامية خطيرة– وليس حدثا عارضاً- قد فرغت بإصدر تشريع يعاقب على ارتكاب الجرم الخطير في هذه الظاهرة بعقوبة الإعدام، بينما أن صدور هذا القانون معناه أن مهمة أخرى قد بدأت، وهي تطبيق هذا القانون، والذين يطبقونه هم قضاة من البشر قد يصيبون وقد يخطئون.
ثقة الشعب بقضائه
وما أكثر الحالات التي نفذت فيها الأحكام القضائية الصادرة بعقوبة الإعدام في بعض البلاد، وثبتت براءة المحكوم عليه، ولم يكن هناك مجال لتصحيح الأمر بل كانت ردة فعل ذلك هي عدم ثقة الشعب بقضائه.
براءة محمود علي طه بعد إعدامه
ومن هذه الحالات حكم أصدرته محكمة بالخرطوم بتاريخ 1986/1/15 بالإعدام بحق بعض الكتاب السودانيين اتهموا فيما كتبوه من آراء بالردة، وقد نفذ الحكم في أحدهم وهو محمود علي طه، فأقامت ابنته دعوى أمام الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا السودانية، وقضت المحكمة ببطلان الحكم، وأسست قضاءها على ما استبان لها من وقائع وإجراءات المحاكمة من براءة المتهمين، وأن إجراءات ما سمي بالاستنابة في الحكم الصادر بالإعدام لم تكن قائمة على ضرورة قانونية فضلا عن الظروف التي تمت فيها، حيث لم يكن من المتصور عقلا أن يمتنع المحكوم عليهم عن إعلان التوبة التي طلبت منهم وسيف الإعدام مشهور في وجوههم، وهو الإعلان الذي لم يمنع المحكمة من إصدار حكمها بإعدامهم بسبب الردة وهو الذي كان معدا سلفا، وإن إعلان توبتهم أمام المحكمة لم يمنعها من إصداره، الأمر الذي رأت معه المحكمة الدستورية أن تدمخ الحكم بالبطلان، وأن تعتبر التوبة التي صدرت بالإكراه خالية من أي معنى هي الأخرى.
واستطرد الحكم في أسبابه إلى أن الحكم الصادر من محكمة الاستئناف الجنائية بالخرطوم بحق محمود محمد طه ورفاقه بتاريخ 1986/1/15 قد أهدر حقوقهم التي يكفلها دستور السودان لسنة 1973 الملغي.
وإن الحكم على الرغم مما شابه من مخالفات للقانون والدستور فقد أصبح حقائق في ذمة التاريخ لمن نفذ فيه الحكم، وهو والد المدعية محمود علي طه، وتقع المسؤولية عنها سياسية في المقام الأول ولم يعد من الممكن استدراك كثير من النتائج التى ترتبت على ذلك “إلا ما بقي منها دون نفاذ”، كما لم يعد من المتاح النظر إلى الوراء إلا لأغراض العظة والعبرة، فلم يعد من الميسور بعث حياة وئدت مهما بلغت جسامة الأخطاء التى أدت إلى ذلك، تماماً كما أصبح من الصعب– إن لم يكن من المستحيل– العثور على جثمان أخفي بترتيب دقيق، بيد أنه بقي أمر جوهري هو أن للمدعين حقاً في الحصول على إعلان بالحقائق المتعلقة بهذه المحاكمة التاريخية.
الحكم بحبس الدكتور أحمد بغدادي
ولعل مشروع القانون الذي يقرر عقوبة الإعدام للإساءة إلى الذات الإلهية قد أعاد إلى الأذهان الحكم القاضي بإدانة المرحوم الدكتور أحمد البغدادي فيما نسب إليه من إساءة الأدب مع رسول لله صلى الله عليه وسلم، وجعله من الدين سببا لفساد العباد، والقضاء بحبسه شهراً وهو الأستاذ في الجامعة، الحاصل على دكتوراه من جامعة أدنبره في فلسفة الفكر الإسلامي، وله مؤلفات عديدة في الدراسات الإسلامية، وقف الأستاذ صاحب القضية في سجنه ممتثلا لحكم القضاء، لا يحرك ساكن نفسه التي راضها على ما تلقى في سبيل ما اعتقد، وقد سلطت عليه شهوات الخصومة نارها التي لا ترحم، وسد عليه إدانته بهذا الحكم القضائي، منافذ الخلاص من اتهامه في ثوابت عقيدته، حتى كان العفو الذي أصدره صاحب السمو الأمير مستخدما في ذلك سلطته الدستورية المنصوص عليها في المادة (75) من الدستور، ليظل سموه- كما قررت المذكرة التفسيرية للدستور– أبا لأبناء هذا الوطن جميعاً.
وهو ما أكده صاحب السمو الأمير بالمرسوم الصادر برد مشروع القانون الذي يعاقب بالإعدام على الإساءة إلى الذات الإلهية أو إلى الأنبياء والرسل أو إلى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
تابع ما قل ودل
في مقالي الأحد الماضي على هذه الصفحة تحت عنوان “النفق المظلم الذي أوقعتنا فيه لجنة الانتخابات الرئاسية في مصر” قلت إن اللجنة قد وقعت في خطأين، أولهما: أنها بوقف تنفيذ قرارها بشطب الفريق أحمد شفيق، وإعادته إلى السباق الرئاسي قد أوقفت العمل بقانون العزل السياسي، وهو ما لا تملكه حتى المحكمة الدستورية إلى أن تفصل في الدعوى الدستورية، أما الخطأ الثاني، فهو خطأ إحالة اللجنة الدفع بعدم دستورية القانون إلى المحكمة الدستورية، لمخالفة ذلك للمادة (29) من قانون المحكمة الدستورية التي تقصر حق الإحالة إلى المحكمة الدستورية على المحاكم القضائية وحده، وأن اللجنة بالرغم من تشكيلها الكامل من القضاة لا تعدو أن تكون لجنة إدارية، وهو ما أخذت به هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية منذ بضعة أيام والتي أوصت في تقريرها، أصليا بعدم قبول الإحالة من اللجنة بسبب المخالفة للمادة (29)، فتحية لهيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا، التي قدمت هذا التقرير، وتحية للمستشار الذي أعده، والذي لم يخشَ في الحق لومة لائم، فمن الجدير بالذكر أن رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية التي أحالت الدفع بعدم دستورية القانون إلى المحكمة الدستورية، هو رئيس المحكمة التي قدمت هيئة مفوضيها تقريرها على خلاف رأيه، هنيئا لهذا القضاء الشامخ.
وإن كنا نتفق معها في عدم دستورية قانون العزل السياسي، حيث إن من واجب الهيئة، أن تتناول الشكل والموضوع، لتأخذ المحكمة بما تراه من توصية. وإن كنت أتمنى أن تأخذ المحكمة بالتوصية المتعلقة بالشكل، وأن تحجب نفسها عن التصدي لموضوع الدعوى الدستورية، إلى أن تصلها الدعوى بالشكل الصحيح وذلك لإنقاذ البلاد من النفق المظلم في انتخابات الإعادة، وتداعياتها على الدولة المدنية أو على الثورة، وكلاهما مر، وإن غداً لناظره قريب.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق