عبداللطيف الدعيج: حكم القضاة.. أم حكم العسكر

من دون شك، ان ما جرى في مصر لا يزال جاريا، ويخطئ من يظن ان الأمور حسمت أو استقرت. لهذا فإن على الكثيرين الا يطمئنوا إلى نهاية الحيرة والتياه ــ أو على قولة المصريين التوهان ــ اللذين خيما عليهم منذ ايام. ان الأسئلة التي رافقت الحراك أو التمرد المصري الأخير لا تزال قائمة. ولا تزال وبغض النظر عن النتائج المحسومة وغير المحسومة بحاجة إلى اجابة وربما تتطلب موقفا ثابتا من الجميع.

هل ما جرى ثورة أم انقلاب؟ وهل هو انقلاب على الرئيس المنتخب أم على حزب الاخوان أم على التدين بشكل عام كما هتف البعض في ميدان التحرير؟ الإجابة وللمفارقة تتطلب مزيدا من الأسئلة. هل الرئيس المعزول رئيس شرعي؟ وهل شرعيته حقيقية أم توهمها هو وحزبه؟ ومن الاكثر شرعية، الامة صاحبة السيادة والسلطة الدائمة أم رئيس منتخب لسنوات معدودة، يفقد بعدها سلطته وشرعيته؟

الذين هتفوا، بل واعتُقلوا هنا دفاعا عن سلطة الامة المزعومة، هم من عارضها في أحداث مصر. ومن دافع عن شرعية مجلس 2009 والثقة التي استمدها رئيس مجلس وزرائنا من رئيس السلطات ومن مجلس الامة، هم من انكر على الرئيس المصري المخلوع شرعيته. تضارب المواقف هنا ادى بالكثير من الساسة هنا إلى الصمت، والى تجاهل ما يحدث، وهم الذين عودونا على التصاريح وعلى التدخل في كل شيء. دوليا.. الأمر يكاد يكون مضحكا، فمن اسقطوا أنظمتهم بالتظاهر يعترضون على اسقاط المصريين لرئيسهم، وبعض من يقمعون التظاهرات ويستنكرون حرية الرأي لدى مواطنيهم يهنئون شعب مصر ويباركون الثورة المجيدة هناك!

وحدهم الأوروبيون كانوا إلى حد ما أكثر انسجاما ومعتقداتهم وتوافقا وأنظمتهم. المجاميع الشعبية والرسمية العربية مأخوذة اما بثاراتها واما أسيرة لظروفها الخاصة، لكنها مع هذا تجد الجرأة وحتى الدافع للتدخل ظلما – في الغالب – في الشأن المصري. لست معنيا «كثيرا» بأوضاع مصر، فمصر للمصريين، لكن يهمني مصير الديموقراطية في أي مكان. لهذا رغم غرابة ولا «شعبية» الموقف، ورغم الموقف البطولي للقوات المصرية المسلحة، التي سلمت أو هي تعهدت بتسليم الأمر إلى أهله، رغم هذا يبقى ان الوضع كان شرعيا في مصر، وان خلع اول رئيس منتخب لمصر مهما كانت أخطاؤه انتكاسة ديموقراطية، وسابقة قد تصبح تقليدا ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة. فلا يزال كثير من «الصعايدة»* بيننا يرى في مصر، أم الدنيا، المثال والعبرة. ان هناك فرقا كبيرا بين هدف المتمردين الظاهر، وهو اجراء انتخابات مبكرة، وفرض هذا كأمر واقع، بموافقة الرئيس المصري أم تحت معارضته، وبين خلعه اولا ومن ثم انتخاب بديل له.

هل كان الوضع شرعيا تماما في مصر؟ لقد اتت انتخابات شرعية، في الظاهر، بالرئيس المصري، ولا يشفع لمن خلعوه انها كانت متقاربة النتيجة أو ان شكوكا واتهامات دارت حول سلامتها، لكن يشفع لهم انها لم تكن «مشروعة». فانتخابات مصر مثل كل انتخابات دول العالم الثالث جرت وتجري، وربما سوف تجري في ظل تغييب حرية الرأي، وتحت مظلة الهيمنة الدينية، وسيطرة الاتجاه الديني، بل حتى المذهب الديني الواحد. لهذا فهي غير مشروعة وان جرت بنزاهة وشرعية كشرعية انتخاب الريس محمد مرسي.

التسلط والقمع اللذان يمارسهما العسكر يؤديان إلى تحجيم جميع الحركات والاتجاهات الشعبية. وحدها تلك المعتمدة على الدين وعلى تبني المشروع الديني تجد فرصة كبيرة في العمل، بل هي تزدهر وتتنامى بفعل غياب الآخرين وتغييبهم. وحده المسجد يبقى فاعلا سياسيا من خلال الخطب والدروس الدينية، ووحده المسجد يصبح وسيلة تجمع مشروعة تقف السلطات القمعية متهيبة عن فض تجمعها. تحت حكم التسلط يفقد الجميع القدرة على التعبير والقدرة على الحركة، بينما تتاح هذه بشكل واضح لمن يحمل ويروج للمشروع الديني. وعندما تجري الانتخابات تحت سطوة الاتجاه الديني، وفي ظل التدين المفروض بالقوة الناتجة عن التقليد والاتباع، فإن النجاح والاكتساح يكونان بالطبع حليفين للتيارات والمجاميع الدينية.

لهذا فإن حكم الرئيس المصري، أو بالاحرى حكم الاخوان المسلمين في مصر يفقد بعضا من شرعيته، ويفقد اكثر بعضا من ديموقراطيته ايضا، فهو حكم فيه الكثير من بواقي اللاهوت وقليل من المدنية، خصوصا انه جرى في غياب دستور ديموقراطي قائم على المبادئ الديموقراطية في الحرية والعدالة والمساواة. لهذا فلا عجب ان يشمئز مؤيد الشرعية في مصر، المفتي عجيل النشمي، من إشاعة ترؤس نصراني لدولة مصر، ولا عجب قبلها ان يحرم شيخ الأزهر تشيع المصريين. فالعدالة والمساواة وحتى الحرية لم تعرف طريقها بعد إلى مصر. لهذا قلنا ان الدول الاوروبية كانت منسجمة «إلى حد ما» ومعتقداتها وانظمتها، لان حكم الرئيس المصري المخلوع لم يكن حكما ديموقراطيا يستحق المناصرة.

كثيرون هنا مخدوعون بمقولة ان الدستور عقد بين الحاكم والمحكوم. هذا كان زمان.. حاليا الدستور عقد بين الناس جميعا، كثير ايضا يعتقد ان الديموقراطية حكم الاغلبية.. هذا كان زمان ايضا. فالديموقراطية حكم الاكثرية وليس حكم الاغلبية. ما الفرق..؟ اولا.. لنتوقف عن العقد الدستوري الذي من المفروض ان يكون بين الناس جميعا، ليس بين الحاكم ومن يحكم. ففي النظام الديموقراطي اصلا، الحكم والسيادة للامة وليس للحاكم، فردا كان أم مجموعة. العقد هو بين الناس، بحيث ان الناس جميعا يلتزمون بالدستور وبالمبادئ الديموقراطية العامة المتفق عليها في الحرية والعدالة والمساواة. لهذا فان احدا لا يملك ان يبخس اي كائن من كان حقه أو ان يسلبه ما ضمنه النظام الديموقراطي وما كفله الدستور له من حرية ومكتسبات. صوّت %99 من الناخبين لها أم عليها، تبقى هذه الحقوق مكفولة ومحترمة حسب «التعاقد» الذي اتفق عليه. وبالتالي لا تملك «اغلبية» الناس انتهاكها أو حتى تعديلها بحجة انها الاغلبية، ان «الاكثرية» تحكم وفقا للدستور، أي عندما يتم حساب التصويت وفقا للدستور المتعاقد عليه فان «الاكثرية» تقرر. لكن اغلبية المواطنين لا تقرر للجميع فقط لانها اغلبية، اذا تبقى ملتزمة بالدستور وبالتعاقد العام، أي انها في نهاية الامر لا تحكم، فالذي يحكم في النهاية هو الامة صاحبة السيادة التي تعاقدت على الدستور.

الرئيس المصري لم ينتخب وفق دستور متعاقد عليه، والرئيس المصري لم ينتخب وفق المبادئ الديموقراطية في الحرية والعدالة والمساواة، بل تم انتخابه تحت هيمنة السطوة الدينية وبعد عقود من حكم العسكر، وفي تغييب تام للحرية والعدالة والمساواة. لكن مع هذا يبقى وجوده شرعيا ومتفقا وان لم يكن متعاقدا عليه. لهذا قد نتعاطف مع الملايين الغفيرة التي خرجت ضده، ونجد لقيادة الجيش عذرا في الاستجابة لنداء الشعب، لكن يبقى في النهاية ان الرئيس المصري كان اول رئيس منتخب لمصر.

***

• سكان الأرياف الذين كانوا ينزلون إلى العاصمة «مصر»، كانوا ينبهرون بأضوائها وضوضائها لهذا يسمونها «أم الدنيا».

عبداللطيف الدعيج
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.