حلت في مارس الماضي الذكرى الستون لانقلاب 1953 الذي أطاح برئيس الوزراء الإيراني، زعيم الوطنية الايرانية، الدكتور محمد مصدق، ومهد لعودة الشاه محمد رضا بهلوي الى الحكم.
كان د. مصدق بطل معركة تأميم شركة النفط الانجلو – ايرانية، وملتقى الآمال العربية – الايرانية ضد الانجليز والاستعمار، وكانت حركته بلا شك دعماً لثورة 1952 في مصر وموجة الانقلابات والسياسات المعادية للغرب التي تلت ذلك.
كما كانت «نظرية المؤامرة» من بين النظريات التي اتسع الاهتمام بها، بل وتوسيع اطرها لتشمل فيما بعد كل صغيرة وكبيرة في الحياة السياسية والدولية. وكما تقول الباحثة الامريكية المعروفة في الشؤون الايرانية د. نكي كدي، «وجد المعارضون الايرانيون من معظم التيارات المتنافسة من ماركسيين ويساريين وليبراليين ويمينيين علمانيين ودينيين، ما يثير اعجابهم، فراحوا يشيدون باسمه ودوره، ويعلقون صوره باعتزاز، ويجدون في آرائه وخطبه ما يدعم وجهات نظرهم». (Modern lran, Nikki R.keddie.131) اما في العالم العربي، فيقول د. رغيد الصلح، فـ«كان من اسباب التجاوب العربي مع الوطنية الايرانية ممثلة بمصدق، القناعات المشتركة حول القيم الديموقراطية والتحررية التي كانت منتشرة على نطاق واسع بين الايرانيين والعرب». (الحياة، 2013/3/14).
ولكن هل كان د. مصدق «عدوا للغرب» ام بطلا ديموقراطيا؟ وهل كان في الواقع قائدا نهضويا.. ام زعيما فوضوياً؟
صورة د. مصدق العربية، لا تزال زاهية دون خدوش، اما صورته في المؤلفات الغربية والفارسية فشيء آخر!
من هذه الكتب كتاب «وطنيٌّ من بلاد فارس»، لكريستوفر دي بيلاغو De Bellaigue مراسل مجلة الايكونومست في طهران، والذي كتب د. عبدالله المدني، المختص البحريني في الشؤون الآسيوية مقالا في «الاتحاد» الاماراتية يعرض فيه هذا الكتاب الذي ينتقد د. محمد مصدق بمرارة ويعرض جوانب مجهولة من شخصيته.
ان مصدق بعناده وعدم اجادته للعبة السياسية، وسوء تقديره للعواقب، يقول «دي بيلاغو»، تسبب بنفسه في عملية الاطاحة به، «بدليل انه رفض التفاوض مع الانجليز واستقبال بعثة ستوكس البريطانية، ومقترحات بعثة ترومان، وعروض الوساطة من تشرشل وترومان وايزنهاور والبنك الدولي».
وخلافا لما قيل عنه، يضيف مراسل الايكونوست، «فإن مصدق لم يكن بالقائد الملهم ذي التوجهات الليبرالية، او الزعيم الممثل لكافة اطياف الشعب الايراني، وانما كان رجلا يستخدم الشعارات الشعبوية لحشد خصوم الطبقة الوسطى المدنية المتعلمة، والاثرياء وطبقة الملاك، اي الفقراء والمهمشين، ومعهم اليساريون، وآيات الله في «قم»، ممن كانت لهم ثارات بائتة مع اسرة بهلوي منذ قيام «رضا شاه الكبير» بعصرنة البلاد وتقليص نفوذهم. وهذا ما اكدته شخصية ذات مصداقية هو «مظفر بقائي»، استاذ المنطق في جامعة طهران وعضو البرلمان وزعيم «حزب العمال الديموقراطي الشعبي» في تلك الحقبة، والذي وصف «مصدق» بانه شاب وطني، قبل ان يتراجع ويصفه بـ«الديماغوجي»، بعدما تيقن من افكاره ونهجه الديكتاتوري».
ويضيف انه لا يوجد في تاريخ مصدق السياسي والاداري لنحو نصف قرن كنائب وكحاكم لاقليم فارس ووزير مالية ووزير للخارجية ورئيس للحكومة «ما يصلح دليلا على انه شخصية ليبرالية بل العكس هو الصحيح، فقد سجل عنه قوله «ان الزعيم المثالي هو من يجبر الناس على طاعته دون نقاش»، وهذا طبعا ليس من صفات الليبرالي، وانما من صفات ذوي التوجه الاسلامي التقليدي ممن سعى مصدق الى التواصل معهم، وزيارتهم في معاقلهم، وطلب نصحهم ومباركتهم. كما انه لا يوجد دليل على ان «مصدق» كان ديموقراطيا، بل على العكس، فقد كان ميالا للديكتاتورية، بدليل انه لم يعقد اجتماعا كاملا لمجلس الوزراء ولو لمرة واحدة. هذا ناهيك بأنه بمجرد وصوله الى السلطة قام بحل مجلس الشيوخ واغلق البرلمان وعلق الانتخابات العامة وحل المجلس الوطني للتعليم العالي، وأقال قضاة المحكمة العليا».
ويقترب الكاتب من حياة مصدق فيقول ان «كل الشواهد تؤكد انه كان اقطاعيا، اي خلافا لما قيل من انه كان يستشعر نبض الفقراء. فهو كان احد ابناء عمومة ملك القاجار، وينتسب لواحدة من العائلات الألف الاكثر ثراء في ايران في الخمسينيات، الامر الذي سمح له ولابنائه بتلقي الدراسة المكلفة في سويسرا وفرنسا، بل وسمح لابنائه بالاحتفاظ بمربيات فرنسيات، والعلاج في باريس وجنيف.
ماذا عن موقفه من الغرب؟ ثمة تناقض ملفت، يقول المراسل. فمصدق هو الذي وصفه وزير الخارجية الامريكي في عهد الرئيس ترومان والذي عرفه عن قرب بانه «فارسي ثري ورجعي وكاره لبريطانيا والغرب عموما». ومصدق من جانب آخر، هو نفسه من تلقى العلم في اوروبا، وارتبطت اسرته بعلاقات خاصة مع الانجليز لاربعة عقود، ومن اعلن انه ارتبط بعلاقات مع القنصل البريطاني في بوشهر حينما كان حاكما لاقليم فارس.
هذا اضافة لما هو معروف من انه طلب الحصول على جنسية سويسرا بعد نيله الدكتوراه منها، «ولم يتخل عن الطلب الا حينما ابلغ بان الامر قد يستغرق عشر سنوات». (عن مقال د. عبدالله المدني، الاتحاد، 2012/9/16).
وقد نتساءل بعد هذا: بم يؤثر البطل في تاريخ شعبه، بحقيقته ام بأماني وتصورات واساطير الناس عنه؟
لا يمكن بالطبع الجزم بكل ما ورد هنا من سلبيات بحق د. محمد مصدق وان كان يدعو الى تعميق البحث في حياته وزعامته ودوره. ولكن هل لكل هذه الانفعالية والشعبوية وكراهية الغرب بشكل اعمى دون مبرر، دور في شعبيته الجارفة في العالم العربي؟ ألم تجلب لنا مثل هذه الانفعالات والسياسات.. الانقلابات المدمرة وصدام حسين والعقيد القذافي؟ ألم تكن سياسات مصدق التي لم تبن ايران حديثة مثل سياسات اتاتورك مثلا في تركيا، هي التي وضعت جذور المواقف الايرانية الحالية في الواقع الدولي؟.
دعنا لا نتعجل في الحكم على الامور!.
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق