في الكويت معارضة واضحة وموالاة واضحة. فيها موالاة بغطاء معارض ومعارضة بغطاء موالاة. فيها مبدئيون يعبرون عن آرائهم التي لا تتغير مهما تغيرت الظروف وهؤلاء لا يصنفون أنفسهم لا معارضين ولا موالين، وفيها من يغير رأيه كل يوم وحسب الظروف والعروض فيصبح معارضا أو مواليا أو حتى متطرفا قبائليا أو حضريا أو مذهبيا… في الكويت كل الأصناف والفئات التي اعتاد المشهد السياسي عليها، لكن أغرب ما فيها هو خروج «مجموعات نخبة» بين فينة وأخرى بمبادرات أو مشاريع اصلاحية أو برامج انقاذ (سمها ما شئت) تتخذ من الارقام أسماء لها (6، 11، 16، 18،22، 62، 66، 100… إلخ) فيجتمعون ويحللون ويرفعون سقف التوقعات ويركزون على استقلاليتهم ومواقعهم ومراكزهم الاجتماعية وتاريخ بعضهم السياسي، ثم يخرجون بـ«إنجاز تاريخي» متشابه بين كل المجموعات لانه عبارة عن بديهيات أو شعارات وطنية أو فصول من كتب علم السياسة المدرسة في الجامعات.
بعض هؤلاء يريد من خلال هذه المبادرات إحاطة نفسه بهالة وطنية وهيبة اجتماعية. بعضهم يبحث عن مكان بعدما فشل مواليا وفشل معارضا للقول «نحن هنا». بعضهم يسعى لايهام القيادة انه «المايسترو» الذي جمع هذه الشخصيات في برنامج مشترك أو مبادرة واحدة. بعضهم يطعم المجموعة بوجوه شيعية وقبلية ليقول إنه يؤسس لوحدة إسلامية واتحاد وطني. بعضهم يحاول الايحاء بانه وحده يمثل فئة التجار أو انه الامتداد التاريخي للتجار القدماء. بعضهم يشارك من باب تبرئة الذمة أو للقول انه ما قصر «لكن احدا لم يستمع إليّ»… وبعضهم يريد تصفية حسابات مع حكومة لفظته أو تيار لم يعد يبلع الاعيبه.
ليس من الخطأ في شيء ان تخرج مبادرات بين فترة وأخرى تحمل الكثير من الثوابت والقيم والتصورات الكفيلة بتحصين الوضع السياسي لان البلد تعب فعلا واستنزف فعلا بالأزمات وما صاحبها من تهديدات للوحدة الوطنية والاستقرار الامني، لكن الخطأ هو الكلام العام الذي يصدر من دون أي إجراءات عملية للانقاذ من جهة، وهو ان «مجموعات النخبة» هذه تبدأ مهمتها وتنتهي عند اصدار البيان من جهة اخرى، فبعضها يعيش في أبراج عاجية مستمتعا بتوجيه النصح والملاحظات لرواد مجلسه لكنه يرفض المشاركة الفعلية في التغيير معتبرا ذلك انتقاصا من قيمته.
الشخصيات التي تخرج دائما بمبادرات مهما كانت أرقامها، تتجاهل الدور الكبير لشباب الكويت في عملية تطوير النظام السياسي، فهي ان ذكرت تدرج على استحياء كلمات قليلة عن ضرورة اشراك الشباب في جهود التوافق الوطني. ومن يعرف هذه المجموعات عن قرب يعرف انها هي نفسها، ما زالت بالخطاب نفسه والبديهيات نفسها والشعارات نفسها، لم تسهل مهمة الاجيال الثانية عندها في الانتقال الى واجهة المشهد السياسي أو العمل الوطني، ومن لم يفعل ذلك في بيته فسيعجز عن فعل ذلك في الرحاب الأوسع.
ثم لنأتي إلى المبادرات بالتفصيل. المبادئ عبارة عن بديهيات عامة تتحدث عن ضرورة احترام الدستور والقضاء والحفاظ على الثوابت والقيم والديموقراطية وحرية التعبير والمصلحة والمصالحة ورفض خطاب الكراهية أو التخوين أو التصنيف… ثم نأتي الى شرح هذه العناوين من خلال الوسائل الموضوعة فاذا بنا أمام بديهيات أخرى مثل تطوير النظام الانتخابي ومحاربة الفساد المالي والاداري والسياسي ووقف صراعات ابناء الاسرة وتدخلهم في الانتخابات واصدار قوانين حقوق الانسان وتعزيز المشاركة الشعبية في الحكومة، واختيار الاكفأ من ابناء الاسرة والشعب لتولي المناصب وحماية الثروة النفطية… حسنا، نأتي الى اهداف المبادرة فربما نجد تفاصيل تنفيذية وعملية فنجد حديثا عن ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ الاستقرار وايجاد توافق وطني على برامج الاصلاح ومعالجة التراجع في التنمية وتأكيد ثوابت الكويت الممثلة بشكل خاص في تعاليم الدين الاسلامي والانتماء العربي والنظام الديموقراطي والحريات.
هذا الكلام لم تتضمنه المبادرات الاخيرة فقط بل كل المبادرات التي سبقتها وضمت شخصيات مختلفة، وهو كلام لا يختلف اثنان عليه. كلام جميل يقوله الموالون والمعارضون على حد سواء، ويحتاج اليه الموتورون الذين ضيعوا البوصلة في حراكهم السياسي. لكن الكويت تحتاج الى ما هو اكثر من ذلك. تحتاج الى ما هو اكثر من العناوين والبديهيات. تحتاج الى فعل ومشاركة وارادة تنفيذ. تحتاج الى مشروع مفصل، محدد، واضح يتضمن على سبيل المثال لا الحصر اعلان جميع هذه الشخصيات بمختلف ارقامها استعدادها الفوري لمناقشة اي مشروع شامل للخروج من الازمة مع الجميع. عليهم ان يسمعوا من الجميع الكلام الذي يريد الآخرون قوله لهم لا ان يكتفوا باعطاء المحاضرات للآخرين. عليهم ان ينخرطوا في ورشة عمل وطنية ويخرجوا من ابراجهم العاجية للقاء الناس لا للحديث معهم أو السماع منهم فحسب بل لاقناعهم بالانخراط في المشروع مع الاستعداد لبذل اي جهد يحتاجه هذا الانخراط. عليهم ان يعطوا الشباب اكثر من سطر. ان يدركوا ان لا تطوير للنظام السياسي من دون مشاركة فاعلة لمن هم كل المستقبل. عليهم ان يفتحوا قلوبهم قبل ابوابهم للشباب وان يكونوا دعما لهم في كل المجالات المهنية والعلمية والوطنية.
والمطلوب ان تنخرط هذه الشخصيات في العمل العام من اوسع ابوابه لا من اضيق بياناته. عندما تقول انك صاحب رسالة أو مبادرة أو برنامج عليك ان تترجم هذه القناعات عملا تنفيذيا من خلال المؤسسات الموجودة سواء في الحكومة أو المجلس أو الهيئات الاستشارية، اما ان نملأ الفضاء الكويتي بالحديث عن المسؤولية فيما بعضنا يخشى تحمل المسؤولية فهذا آخر ما تحتاج اليه الكويت.
كل مبادرة حضارية موضع ترحيب من جميع الكويتيين خصوصا اذا كان من الموقعين عليها من نحترم ونقدر ونحب، لكن الكويت في هذه المرحلة تتطلب «رافعات سياسية» ضخمة أشبه بمشاريع ومؤتمرات تأسيسية. العبرة في التنفيذ والتنفيذ إرادة، كما قلت سابقا، فهل تبقى الارادات داخل الديوانيات والمجالس والنيات والبديهيات أم تترجم على أرض الواقع؟
… نحن في الانتظار.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق