جاسم بودي: هل يكفي الصندوق

ونحن على أبواب انتخابات نيابية، نشكر الله دائما أن صدر الكويت يتسع للصوت العالي على المنابر ويتسع لأوراق الصناديق في الوقت نفسه. هذه الصناديق التي لم تكن دول عربية كثيرة تعرفها إلا على انها استفتاء بغطاء انتخابي معروفة نتائجه سلفا. هذه الصناديق التي كان غيابها سببا للانتفاض الشعبي لتغيير الكثير من الأمور.
منذ عشرات السنين والحض على المشاركة في الاقتراع هو القاسم المشترك في مختلف الحملات الدعائية الغربية، وحتى في الأفلام والمسلسلات… تجد البطل يستمع إلى مجموعة تشكو الظلم وتبكي الحاضر ثم ينتفض قائلا: «وماذا فعلتم؟ هل شاركتم في التصويت؟ هل انتخبتم من رأيتم ان برنامجه يرفع بعضا من ظلم ويخفف شيئاً من بكاء؟»، وعندما يردون عليه بأن غالبيتهم انتخبت إلا ان ذلك لم يغير في الأمر شيئا يكرر: «الحل بالمزيد من المشاركة والمزيد من التصويت».
الغربيون يربطون تطور نظامهم السياسي بالديموقراطية، وتطور الديموقراطية بالمزيد من الديموقراطية. أي خيار آخر بالنسبة لهم اقرب إلى الانتحار أو اشبه بمن يهدم بيته احتجاجا على مرور طريق قربه. هم أصحاب ذاكرة لن نقول قوية أو ضعيفة بل نقول موثقة. لم يخجلوا من توثيق كل تجاربهم السيئة في برامجهم الدراسية ومناهجهم التربوية وأعمالهم الفنية. حشروها حشرا في الوعي المجتمعي إلى الدرجة التي حولت حتى المشاعر إلى ثقافة رافضة للكراهية والعنصرية والتمييز والانغلاق وازدراء الرأي الآخر وحجر الحريات وتكميم الافواه. ويشهد عدد كبير من الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون في الجامعات والمدارس الأوروبية كيف كان زملاؤهم ينظرون إليهم عندما يتحدثون وكأنهم من كوكب آخر، خصوصا في مسائل الديموقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والحيوان، وكيف كانوا يشفقون عليهم (كي لا نقول يزدرونهم) عندما يبدأون تقديس الاشخاص وعبادة الزعامات والعبودية أمام الافكار والمعتقدات السياسية… وأحيانا كانوا يصفقون لهم عندما «يتحاورون» بين بعضهم بكراسي المطعم دفاعا عن هذا الرئيس أو ذاك ثم يتصلون بالشرطة «لاستضافتهم».
هذه الافكار التي خرجت من رحم الانقسامات والحروب وصارت ثقافة، تحولت إلى قوانين، فالعنصري حر بمعتقداته لكنه إن ترجمها بلسانه أو يده لن يكون شتاماً فحسب بل سجينا أيضاً أو معاقباً بغرامة مالية. تشكلت الأجيال على المبادئ نفسها. ليس الجميع من جنس الملائكة بالطبع فانحرافات بعض الغربيين «لا تشيلها البعارين» أيضاً، لكن القاعدة العامة تحصنت وما زالت تتحصن حتى يومنا هذا، اضافة إلى ان الهوية الليبرالية العامة التي طبعت شكل الأنظمة كانت الوعاء الذي نقل الحقوق والحريات من الافكار والنظريات إلى القانون وصار مستحيلا فصل الديموقراطية عنها بعدما ارتبطت ارتباطاً مباشراً بنظام الحكم والتداول السلمي للسلطة.
لماذا نقول إن الديموقراطية ان لم تتحول إلى ثقافة عامة ونظام حكم حقيقي في اطار هوية حاضنة وتفاعل اجتماعي يمكن ان تكون شعاراً بلا مضمون؟ لان هناك ديكتاتوريين وصلوا إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع مدفوعين بحماسة شعبية وفورات وطنية وقومية فرضتها ظروف معينة، ثم تحولت الدساتير والأنظمة إلى عجينة في يد الديكتاتور يشكلها كما يريد مستخدما شعار «الجماهير عاوزه كده»، فيصبح الاقتراع استفتاء، والتظاهرات محاكم، والقبضة الأمنية هي القانون.
«رجل واحد وصوت واحد» ليس المقصود بها يوم الانتخاب فحسب، بل ان كل عضو نقابة عمالية في حزب مثلا عليه ان يدلي بصوته لاختيار رئيس النقابة، وعليه ان يصوت لاختيار رئيس الحزب ولا يتنازل عن هذا الحق لرئيس النقابة، ثم عليه ان يصوت في الانتخابات الوطنية العامة. وكذلك الأمر على مستوى المخاتير ورؤساء البلديات وعلى مستوى انتخاب اللجان الشعبية المنوط بها مراقبة تنفيذ البرامج السياسية والخدماتية العامة وصولاً إلى لجان الاحياء وحتى لجنة المبنى الذي يقيم به. ان أدلى بصوته فعليه ان يقبل بالنتيجة سواء كانت معه أو ضده وان لم يفعل فعليه ألا يعترض، مع العلم ان البرامج الانتخابية للمرشحين تكون متقاربة كثيرا في الحدود الدنيا والجميع يتنافس على الخدمة العامة.
في ظل هذه الصورة يصبح صندوق الاقتراع وسيلة من وسائل العملية الديموقراطية وليس غاية. ويصبح تطور النظام السياسي في الكويت ضرورة لتطور الديموقراطية في اتجاه تعميم ثقافتها وقوننتها. تجربتنا رائدة بلا شك انما الاكتفاء بالتغني بها نيابيا واقتراعيا سيفرغها عاجلاً ام آجلاً من مضامينها ويخلق اضطرابات سياسية. فالكويتي يجب ان يجد آليات أخرى للتعبير عن رأيه وممارسة حقه الديموقراطي خارج إطار الانتخابات النيابية أيضاً.
اختيار النائب – على أهميته – لا يكفي لا للتطوير ولا للتغيير، بل احيانا تساهم التطورات في ضعف الاختيار أو توجيهه غرائزياً وطائفياً وقبلياً وعنصرياً، ثم ان برامج مراقبة الاختيار تقتصر في الكويت على الخدمات فإن التزم النائب بما تعهد به من تقديم خدمات شخصية لناخبيه اعيد انتخابه وان لم يفعل صوت البعض لغيره… هنا نجد انفسنا أمام نائب بلا برامج وطنية وناخب يختصر الرقابة والمحاسبة (وهي من أهم آليات الديموقراطية) بملاحقة ما تعهد به النائب له.
لا بد من أطر سياسية متقدمة بعيدة عن الأمراض الطائفية والقبلية والعنصرية تسمح بانخراط الكويتيين فيها وفق ثقافة واضحة قائمة على مفهوم المواطنة والحداثة والتنمية والتقدم واستناداً إلى تشريعات تنقل العمل الديموقراطي من الافكار إلى القوانين.
الطريق طويل، إنما لا بد من عبوره وإن شاء الله من خلال مجاميع شبابية واعية، لان صندوق الاقتراع الذي نفخر به، وسنستمر، لم يعد يكفي للتغيير… وفي ضوء ما نشهده عربياً لا نريد أي تغيير إن لم يكن للأفضل.
جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.