لم تأت المفارقة المثيرة في تبرئة الضباط المعتدين على النائب عبيد الوسمي الأسبوع الماضي من قصر العدل، إنما جاءت من مسافة نصف الكرة الأرضية من مدينة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا الأميركية يوم الأحد الماضي، عندما أعلنت وفاة شخص اسمه رودني كينغ الذي يشكل علامة بارزة في التاريخ الأميركي المعاصر، فمن هو رودني كينغ؟
كان كينغ، وهو شاب أميركي أسود، يقود سيارته متجاوزاً السرعة القانونية في لوس أنجليس في إحدى الليالي عام 1991، فاستوقفته دوريات شرطة بعد مطاردة، وبعدما قاوم اعتقاله انهال عليه أربعة ضباط بالضرب بـ”المطاعات” والركل والمسدس الكهربائي حتى اعتقل. وكانت الحادثة ستمضي اعتيادياً بتحميل كينغ الذنب، إلا أن قيام أحد المارة بتصويرها غيّر كل شيء، إذ أظهر الفيديو الذي عرض في التلفزيون في اليوم التالي استمرار الضرب بعنف رغم بقاء كينغ مستلقياً على الأرض ووقوف 17 شرطياً آخرين متفرجين كلهم بيض، وقد أسفر عن كسور ورضوض في رأسه وجسده، ما أكسبه تعاطف الرأي العام وأحيل الضباط الأربعة إلى المحاكمة بتهمة التعسف باستخدام القوة المفرطة.
في المحاكمة تفوق محامي الدفاع باستغلال بعض الثغرات في النظام القضائي والتناقضات الاجتماعية بخبث لتهيئة ظروف تفضيلية تصب في مصلحة الضباط المتهمين، كان أبرزها تغيير القاضي ونقل المحاكمة إلى منطقة أخرى أكثر تفضيلاً لهم واختيار هيئة محلفين منحازة بتركيبتها لمصلحتهم. انتهت المحاكمة بتبرئة المتهمين، فدبت المظاهرات والشغب في لوس أنجليس تعبيراً عن الصدمة والغضب من حكم البراءة، واستمرت لخمسة أيام أسفرت عن مقتل أكثر من خمسين شخصاً ومئات المصابين وآلاف المعتقلين ومليار دولار قيمة تدمير المرافق.
واستشعاراً لإهدار العدالة الذي تم في محاكمة لوس أنجليس، تدخلت النيابة الفيدرالية وأعادت محاكمة الضباط بتهمة انتهاك حقوق كينغ المدنية، وأدين اثنان منهم ومنح كينغ 3.8 ملايين دولار كتعويض مدني.
ما أكسب القضية أهميتها التاريخية هو التعامل معها آنذاك، حيث أقر قائد شرطة المدينة بالإفراط في استخدام القوة وأعلن إحالة ضباطه الأربعة للمحاكمة وإيقاف الباقين عن العمل، ولم يكابر بأن رصيفاً ما ضرب كينغ مثلاً. وصرح عمدة المدينة مستنكراً البراءة بأن “رسالة المحكمة للعالم هي أن ما رأيناه جميعاً بأعيننا لم يكن جريمة”، وأقر بوجود تجاوزات في ممارسات الشرطة دوافعها عنصرية وشكل مفوضية مستقلة لمراجعة إجراءات الاعتقال والتفتيش، واستنكر الرئيس آنذاك جورج بوش الأب حكم البراءة استشعاراً منه- وهو قائد الدولة وأب الجميع- بتبعات القضية على العلاقات بين الفئات الاجتماعية وأثرها في هز ثقة الناس بعدالة الدولة والقضاء، ووعد بخطاب تلفزيوني بمحاكمة الضباط فيدرالياً. ولم يشكك المسؤولون والناس بوطنية من قام بتصوير الحادثة، بل أنشئت روابط مدنية في الولايات المختلفة مهمتها مراقبة سلوك الشرطة مع الناس في الشارع. وأخيراً، رغم كون رودني كينغ أسود ضخم البنية وخريج سجون وفي حالة سكر ليلة الحادثة وقاوم عملية اعتقاله، فإن ذلك لم يخلق غشاوة فوق أعين 90 في المئة من سكان لوس أنجليس، حسب استطلاعات الرأي التي أقيمت بعد بث التصوير، رأوا تصرف الشرطة معه على أنه تعسف غير إنساني.
توفي كينغ بعد 21 عاما من الحادثة التي حولته من شخص يعيش على الهامش إلى منعطف مفصلي في العلاقات العرقية واحترام الدولة والمجتمع لمبادئ العدالة والمساواة، إذ أسفرت قضيته عن تغير جذري في الأساليب الأمنية لصون أرواح المتهمين وكرامتهم وحقوقهم المدنية. بينما عندنا، مات عامر خليف أثناء التحقيق وقيل “قلعته إرهابي” ومات الميموني معذباً وشهّر به وزير الداخلية في البرلمان، وضرب وسحل عبيد الوسمي لأنه عبر عن رأي ويراد منّا تكذيب “يوتيوب” وأعيننا، وغيرهم ضحايا ممن لم نعرف عنهم. كذب وتضليل وتشهير وتزوير وضرب وسحل وتعذيب وقتل، ثم يأتي من يضع بيدي وزارة الداخلية مزيداً من السلطات التقديرية للدخول في سرائر الناس يصل بعضها إلى الإعدام. جنون.
***
* فيديو ضرب كينغ متوافر على “يوتيوب”، وتفاصيل قضيته ممكن إيجادها بالبحث عن اسمه Rodney King.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق