غانم النجار: في فقه الثورة وبدائية الانقلاب

كما أن الثورة لا تبدأ في المقاهي، فإن الانقلاب كذلك لا يتم في الأسواق، وكما أن الثورة تأخذ طابعاً عفوياً جماهيرياً، فإن الانقلاب بالضرورة يتم عبر تخطيط وترتيب وانضباط وعدد قليل من الأفراد. قد تتداخل الثورة مع الانقلاب، وقد لا تتداخل. للثورة فقهها وتفاصيلها وفلسفتها، وليس للانقلاب فقه. وبقدر ما تكون الثورة غير تقليدية في أدواتها، فإن الانقلاب هو فعل تقليدي مكرر. وسواء أكانت ثورة أم انقلاباً، فالأهم هو علاقتهما بمفاصل القوة في الدولة. ولا علاقة لها بالنوايا، فقط بمفاصل القوة.
• الثورة فعل اجتماعي شامل، والانقلاب فعل عسكري محدود، قد يتوقف عند أنوف العساكر، وربما ينطلق ليحدث تغيراً اجتماعياً، ولكنه يبقى في إطار “الهندسة السياسية” مستهدفاً تغييراً محسوباً، يضمن للعسكر البقاء في الحكم أطول مدة، ولذا اختلف فلاسفة السياسة في توصيف الثورة، مبدأً ومحتوى ومنتهى، ولم يحاروا في الانقلاب ووصفه، بل ناقشوا نتائجه وبواعثه.
• من المفارقات أن مصطلح “الانقلاب” في الأدبيات السياسية هو مصطلح فرنسي، تم إطلاقه على انقلاب بونابرت في نوفمبر 1799 أو الـ”18 برومير”، وكان المحطة الثانية من الثورة الفرنسية، اختلف حوله المنظّرون الذين عايشوه، وحول مدى علاقته بالثورة، فيكتور هيغو رآه على أنه تصرف وسلوك عنيف من شخص واحد، بينما رأى برودون الانقلاب في سياق تطور تاريخي، أما كارل ماركس فرآه على أساس الصراع الطبقي الذي قلل من أهمية وجود أبطال، وفي نهاية الأمر ظهرت للوجود الثورة الفرنسية، التي لا يختلف اليوم أحد على وصفها بالثورة.
• الثورة قد تبدأ في زمن معلوم وقد لا تنتهي في زمن محدد، بل تتراكم تجلياتها عبر الزمن، وربما تتجدد، وربما تنتكس، وربما تتم سرقتها، وربما ينحرف فيها من دعا إليها، وربما يسعى المتضررون منها إلى العودة للحياة باسمها، ولكنها تستمر وتتجدد مادامت مبرراتها ودوافعها قائمة.
• في زمن مضى، كانت الثورات انقلابات، ربما أغلبها. يحدث انقلاب عسكري، يسمونه ثورة، لأن “سمعة” الانقلاب سيئة و”سمعة” الثورة جيدة، وقد يرفع العسكر شعاراً وطنياً كمقاومة الاستعمار، أو الانحياز إلى الجماهير، أو مكافحة الفساد، لتبرير انقلابهم، ثم يقومون بفرض هيمنتهم على مفاصل المجتمع و”يهندسونه سياسياً”، وبقدر ما يبقون في السلطة فإن انقلابهم يصبح بالتدريج ثورة، أما إن ذهبوا مع الريح، أو خلعهم انقلاب آخر، فإن ثورتهم تلك تصبح “حكماً بائداً” وقيادتهم “طغمة فاشية”، ورئيسهم خائناً، بعد أن كان تاجاً على الرؤوس.
• في زمن مضى كانت الثورة أو الانقلاب أو الحكم يتحدد بمن يصحو باكراً، فكم من حاكم أوقظ من نومه والسلاح على رأسه، ليعلَّق ذلك الرأس لاحقاً على المشنقة، وقد يتدحرج إلى الشارع فيركله الصبية، تيمناً بالبطل الجديد القادم، بعد أن كان ذلك الرأس مصدراً للحكمة ورمزاً للدولة.
وللحديث بقية…
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.