كتبت في الأسبوع الماضي مقالا يمثل مناصرة لسمو رئيس الوزراء لكي يبدأ بتنفيذ خطة التوقعات التي ينتظرها الشعب الكويتي، مستندا على وقائع الانتخابات وعلى تفاؤل المشهد السياسي المحلي بالمستقبل اذا ما عزم رئيس الوزراء على اتخاذ قرار الفراق عن التردد مع عزم على مقاطعة البطء مع تجنيد كل القوى المحلية لمسيرة التغيير والتبديل.
وهذا المقال يركز على حصول القيادة السياسية في الكويت على طاقة اقليمية ودولية نادرة تعاضد الدعم المحلي لجهودها في خطة التنمية التي تريد البدء في تحقيقها، في ضوء التحولات الجغرافية والسياسية بالمنطقة، وتبعثر قوى المناطحة والمكافحة.
ولو نظر رئيس الوزراء الى الواقع الاقليمي سيرى حقائق التطور نحو المعقولية والعقلانية بعد ان تم تشييع فعالية الأيديولوجيات وتم اغلاق تأثير التجمعات الحزبية التي تسيدت المنطقة منذ الثورة العربية الكبرى، التي انطلقت في الخامس من يونيو 1916 وتوقفت في الخامس من يونيو 1967 مع هزيمة المشروع القومي الناصري، وما تلاه من تفتت القناعات الوحدوية وتلاشي الحشودات القومية التي تم استغلالها لمشروع الاستبداد والاستكبار متمثلا في قوى ثورية جاءت من أحزاب وتجمعات عقائدية تسوق أفكارا قائمة على أوهام وتثير الأحلام وتنشد المستحيل، سواء كانت دعوتها لوحدة عربية أو ماركسية أو تشييد الدولة الدينية.
وقد تفتت هذه الأيديولوجيات لمسببات كثيرة أبرزها افتقار مضمونها الى برامج واقعية تتعامل مع حقائق الدولة الوطنية وتنسجم مع الولاء الوطني الجماهيري الذي تلتزم به شعوب هذه الدول العربية التي تشعر بأن أدبيات حزب البعث والقوميين العابرة للحس الوطني، تخلو من الذوق الواقعي وبعيدة عن الهموم الوطنية الضاغطة.
انهارت الأحزاب القومية والناصرية العابرة للهوية الوطنية لاعتمادها على ذاتية مصطنعة فيها تهميش للترابط التاريخي بين الوطن وأهله، وانكار للشرعيات المتوارثة التاريخية التي ساهمت في حضارات لها هوية يتردد اسمها في الكتب السماوية، فنقرأ عن مصر في الكتب السماوية، وعن اليمن وعن المدينة المقدسة.
وبدون التفاصيل المزعجة حول رواية الانكسار الأيديولوجي، نكتفي بقراءة الواقع الراهن في اضمحلال نهج الاستبداد والزعامة التي تسيدت الساحة الاقليمية لخمسين سنة معتمدة على بلاغات خطابية جماهيرية مثيرة واعلام مقتبس من الحشد النازي في الافتراءات والاغراءات وشبكة مخابرات تتآمر وتحيك خلايا الانقلابات في جيوش عربية باغراءات قومية نجحت في اسقاط النظام الهاشمي في العراق والنظام السوري وكذلك في ليبيا وفي اليمن وكادت ان تنجح في المغرب وأخفقت في المملكة العربية السعودية لأن قيادتها تتشكل من سباع، وحتى ايران الخمينية التي جاءت بمشروع تطرحه كحل الهي لقضايا الناس يعاقب الكفرة ويكافئ المؤمنين ويؤدب الاستكبار الامبريالي، فقدت جذوتها الراديكالية وأدركت بأن الدبلوماسية العدوانية ونهج التخريب لن يحقق أهداف الثورة الايرانية في فرض نفوذها وسطوتها الاقليمية.
أهم دروس العبرة من هذه الرواية السيريالية ان الاعتدال قوة للاستقرار وطريق التطور والتنمية، وأن حكم الشعارات ملغوم بنزعة المغامرات وفقدان التوازن، وأن الذاتية الوطنية أمتن من الأفكار الزخرفية الحالمة، وأن المخزون التاريخي للشرعية الوطنية يظل أصلب ألف مرة من أوهام الوطن التقدمي الوحدوي.
نحن الآن في زمن الساحة المرحبة لتنصيب الفكر العقلاني سيدا وقائدا في قيادة الأحداث وادارتها نحو التعبئة الشعبية لبناء الوطن الراقي، ليس في الكويت وانما في عالم العرب الواسع المشتاق للاستقرار والبناء الذاتي.
ويطل رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك على زمن يتميز بالاستيقاظ على الحقائق في الداخل وفي المنطقة وفي العالم، فقد ولى بلا رجعة زمن المشاغبات والتشنيعات حول القبيح في الرجعية وحول رذائلها، وحول فضائل الكتيبة التقدمية ونظافة ذمتها، وولعها بالحرية والعدالة الاجتماعية، وجاء زمن التقارب العربي الذهني والنهجي بعد ادراك عام للتحولات العالمية في استحالة فرض التعتيم وتشديد الاستبداد وسلخ الحريات.
جاء الآن زمن التفاهمات والتعاونيات العربية في مجالات التنمية والاستثمارات والصادرات، بعد هزيمة الدبلوماسية العدوانية العربية والاقليمية.
وزمن الكويت الآن، تغير كثيرا عما كانت عليه في الماضي عندما كنا نعمل في دبلوماسية درء المخاطر من نيران الثوريين العرب واقتحاماتهم المخابراتية والاعلامية.
قضينا أكثر من عقدين منذ الاستقلال نبعد أشباح الهيمنة التقدمية من سواحل الخليج وندعم صوت المعتدلين في الجامعة العربية التي تسيدت أدبياتها المفردات الثورية الموسيقية حول الامبريالية والمؤامرات والاغتيالات.
في هذا الزمن تتأكد الهوية الوطنية الكويتية وتتمتع بالصحة والعافية في يقين تام بأن سلامتها مضمونة في تعاقداتها عبر العقد الخليجي في مجلس التعاون وعبر الشركاء في الاستراتيجية الأمنية، وعبر التفاهم العقلاني العربي الذي طوى الملف القديم بزعمائه وأمواله ومفرداته وتآمراته.
ولعلنا نذكر رئيس الوزراء سمو الشيخ جابر المبارك بأنه أكثر حظا من السابقين الذين عاشوا في أجواء تهدد وتضغط وتمارس لي الذراع خاصة من حكام بغداد القريبين وعلى درجة أقل من البعيدين الثوريين الذين كانوا يتعاملون مع أهل الخليج بالعنجهية والتعالي والاستخفاف بالمشاعر الوطنية، ويعتبرون دول الخليج مجرد ملاحق مالية تشد أزر المشروع الثوري المواجه للامبريالية العالمية.
فالساحة الداخلية الكويتية تتوقع ان يستثمر مسؤول الملف التنفيذي هذه التحولات ويطور أسلوب البطء ويدفع بالعمل والمتابعة وأن يبحث عن الرأي والمشورة من منابعها دون حصرها على المقربين، وأن يوحي للناس بالجدية الحاملة لنهج الحكم الجديد بان استحقاق التسامح يذهب للمستحقين وأن القانون سيد الجميع مع احترام القاعدة المألوفة بأن فنون الحكم حزم بلا غلاظة، وشدة بلا غبن، وحسم بلا تأخير.
وفي النهاية تقول أوراق التاريخ الحاضر ان رئيس الوزراء محظوظ في الداخل وفي الخارج، فالسابقون أمنوا للحاضر ديمومة البقاء بولائهم لنهج درء المخاطر الذين أتعبهم ذهنيا وأعصابا وتحركا. ويأتي زمن الشيخ جابر المبارك في عصر كسب المنافع وتحصيل الثمار التي وضع هؤلاء السابقون بذرتها في تربة الكويت السخية.
ومرة أخرى نذكر رئيس الوزراء الصادق في عزمه، بأن الخليج في هذا الزمن شريك جوهري في القرار العربي والاقليمي وحاضر في المنتدى الدولي، وتبدلت أحواله من منفذ الى صانع، ومن مستقبل الى مخطط، وأن الدولة الخليجية ليست ملحقا في استراتيجية الثوريين، وأن الكويت كعنصر فعال في الحزمة الخليجية تلعب الدور المميز الذي تتوقعه منها المستجدات.
وتبقى آخر الكلمات بأن صوت التاريخ المؤازر لن يتكرر مع سمو الرئيس اذا ما أضاع النداء في زحمة الزيارات والبروتوكولات.
???
رحمه الله الدكتور عبدالرحمن السميط، شهيد الايمان الباحث عن اسعاد الآخرين المستحقين من الضعفاء ولاسيما في أفريقيا.
انتقل الى رحمته الواسعة حاملا معه حسنات الخير التي نالها من التضحية الفريدة لاسعاد المحتاجين..
زرته في المستشفى العسكري في الرياض في آخر الثمانينيات، بعد ان وصل الارهاق الى قلبه، ورغم المرض كان حازما في تفاؤله بالعودة الى تلك الحياة الخشنة التي عشقها في تراب أفريقيا.
أسعدني تكريمه من قبل قادة دول مجلس التعاون في مسقط عام 1986، تقديرا لعطائه الفريد.
حمل المرحوم هموم الفقراء، وعاش لأجلهم، وكانت أعماله عناوين مضيئة للمنابع الخيرة التي جاء منها هذا الطبيب العملاق في انسانيته، الجليل في أخلاقه يرحمه الله ويسكنه مع الأخيار النادرين.. كان عملاقا للعمل الخيري.. {انا لله وانا اليه راجعون} وتتكاثر الاحزان ويغادر الدنيا المرحوم الدكتور علي بن شكر الزعابي سفير الامارات في الكويت، رحمه الله وأسكنه واسع جناته.
في مدة قصيرة منذ تعيينه شعرت وأنا أتحدث معه في مختلف المناسبات ان هذا السفير استطعم كل ما تختزنه الكويت وانسجم معها ومع أهلها وتسلل الى منابع ليس من السهل الوصول اليها، بصفائه ونقاوة مكوناته، كنت عازما على ترتيب لقاء معه بعد العيد، بناء على مقترح منه، غير ان ارادة الخالق قضت بانتقاله الى عالم أرحب من دنيانا.
له الدعاء الصادق، ولأسرته الصبر والسلوان.
عبدالله بشارة
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق