نعرف من التاريخ أن المحاكمات الشعبية، ومثلها الثورية أي محاكم الثورة، أو محاكم المنتصرين أو المحاكمات العسكرية تشكل في مجملها أشد خروقات للشرعية القانونية ومبادئ حقوق الإنسان، وأن حكم القانون فيها يصبح مطاطاً يتمدد حسب رغبات المنتصر، فيها يغيب العقل “كومن سنس” وتنتصر غرائز الانتقام أو قد تصبح المحاكم امتداداً شكلياً للسلطة الحاكمة، وفيها تضرب السلطة المنتصرة المغتصِبة للشرعية عرض الحائط بمعايير الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء.
وقوالب المحاكمات الشعبية أو العسكرية لا تختلف في مضمونها عن واقع الممارسات القضائية في دول الطغيان، فالحديث مثلاً عن “استقلالية القضاء” في سورية يصبح نكتة وكلمة هزل لا معنى لها، وفي غير سورية وفي معظم دول “دساتير من ورق” (عنوان كتاب لنيثان براون) العربية يعد الكلام عن القضاء واستقلال القضاء من الطرائف ورياءً سياسياً تحاول أن تغطي به الأنظمة المستبدة عوراتها.
مصر هي أعرق دولنا العربية في مفهوم استقلال القضاء وتكريس المبادئ القانونية العميقة والتي يرجع الفضل فيها إلى عصر القضاء المختلط في ثلاثينيات القرن الماضي، حين أغنت الثقافة القانونية الفرنسية والإيطالية للقضاة الطليان والفرنسيين أسس ومبادئ القضاء المصري وأسست عصراً تقدمياً لمبادئ الشرعية وحكم القانون مثلما أنتجها عصر التنوير، واستمر القضاء المصري في تقدمه الفكري حتى ثورة يوليو 52، حين شرع عسكر الثورة في الانتقاص من “القضاء البرجوازي” حسب مفاهيم الثورة، ثم حدثت “مجزرة القضاء” عام 69 وفيها طرد أفضل القضاة والمستشارين من سلك القضاء لأنهم لم يكونوا على هوى النظام.
أمامي الآن موقع جريدة “الشروق” المصرية، وفي مانشيت كبير يأتي خبر “إحالة مرسي و14 آخرين إلى محكمة الجنايات بتهمة قتل متظاهري الاتحادية”، فالنيابة تتهم الرئيس الشرعي الذي أطيح به في انقلاب يونيو الماضي وتتهم معه عدداً من قيادات “الإخوان” بالشروع في قتل متظاهري أحداث قصر الاتحادية التي تمت قبل سنة! ما حقيقة هذه الاتهامات؟ وما الغرض منها؟ وأين كانت مدة عام كامل، وهل كانت مخبأة في الأدراج في انتظار الفرصة المناسبة لتصفية حسابات قضائية وسياسية بين الرئيس المخلوع والسلطة العسكرية الحاكمة وامتداداتها لأعمق مفاصل الدولة المصرية؟! لننتظر حكم القضاء في تلك التهم، والتي ستجرى في محاكمة سياسية واضحة، وكم يتمنى الإنسان ألا ينتهي الحال في مصر “بمجازر للشرعية”، يكفينا ذكرى مجزرة 69 ومجزرة الانقلاب في حد ذاته.
المصدر جريدة الجريدة
قم بكتابة اول تعليق