من أجمل الأيام التي مرت في حياتي أيام الدراسة في الخارج ومن أمتعها، لقد حدثت لنا مفارقات كثيرة لا تخلو من الطرائف مضحكة في بعض الأحيان ومؤلمة في أحيان اخرى. كانت الحياة في الولايات المتحدة منذ 40 سنة بسيطة، والشعب الأميركي من الشعوب الودودة، ربما لانهم ليسوا على مفترق طرق مثل أوروبا. كنا نسكن في سكن الجامعة، وهو عبارة عن شقق صغيرة في مبنى يسمى البيت الدولي مخصص لطلبة الدراسات العليا لجامعة هارفارد وبأسعار مخفضة، ويجمعنا في الدور الأرضي صالة للألعاب ومكتبة للمذاكرة الجماعية والفردية، ومجموعة من الحاسبات للاستعمال الدراسي، لذلك ربطتنا صداقات حميمة.
جاري في الشقة المجاورة طبيب من أثيوبيا، درس الطب في مصر وحصل على منحة دراسية. وكما تعلمون ان بوسطن من المدن التي تتميز بمستوى معيشي عال وغلاء يأكل كل مدخراتنا، وكان جاري يتسلم مرتبه البسيط الذي لا يكاد يكفيه لآخر الشهر، ومعظم طعامنا من الوجبات السريعة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم يكن لدينا وقت للطبخ، ولو اردنا ذلك لنقصتنا الخبرة، اتاني جاري ذات يوم مستبشراً: لقد وجدتها! قلت له: ماذا؟ قال: الفول الذي افتقدته منذ غادرت أرض الكنانة! ومن يومها وهو يتفنن في صنع الفول، يوم بالزيت وثان بالزبدة وثالث بالطماطم. وبدأت صحته تتحسن بعد ان فقد كثيرا من وزنه، فالفول غني بالبروتين. في يوم من الأيام اتى ضاحكاً قلت له: ماذا دهاك؟ قال: تعرف صاحب المحل الذي اشتري منه الفول الناشف؟ قلت له: نعم، قال: لقد همس في اذني اليوم قائلا: كيف حال ثوركم الآن، قلت له من قال لك ان لدينا ثوراً؟ قال: أنا أعرف نوع الحيوان لدى الناس من الغذاء الذي يشترونه، فلدينا غذاء للكلاب والدواجن والقطط والثيران والحمير، لهذا عرفت نوع الحيوان الذي تربيه، فالفول مادة قوية للتكاثر والاخصاب بالنسبة للثيران! وماذا قلت له؟ قال: كتمت ابتسامتي.. فما الفرق؟ فكلنا حيوانات في هذا الزمان! ومن يومها وصاحبي متعقد، فلم يعد يتفنن في صنع الفول مع انها وجبة اقتصادية مشبعة، ولكنها لا شك تؤثر في العقل اذا أكلت في المساء، حيث تصيبك بالخمول فلا تستطيع المذاكرة، لذلك يقول اخواننا المصريون ان الفول طعام الاغنياء في الفطور والفقراء في الغداء والبهائم في المساء! ولكون الدكتور ساري – وهذا هو اسمه بالمناسبة – من المميزين حصل على منحة اخرى من الجامعة، وانهى دراسته للدكتوراه واصبح لديه كثير من الأبحاث عن أمراض الكوليرا والملاريا وأمراض نقص الغذاء في العالم الثالث، وقد سمعت انه كان أحد أربعة رشحوا إلى نيل جائزة نوبل للعلوم الطبية، ولكن لم يحالفه الحظ، ومن هنا نستطيع القول بأن ليست كل الثيران والحمير سيئة!
د. صلاح العتيقي
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق